إن استقرار هذه الحقيقة في قلب معناه أن ينطوي هذا القلب على قبس من نور اللّه وأن يكون مستودعا لسر من أسراره وأن يكون أداه من أدوات قدره النافذ في هذا الوجود.. وهذه حقيقة لا مجرد تصوير وتقريب..
وهي حقيقة أكبر من الإنسان ذاته ومن أرضه وسمائه، ومن كل هذا الكون الكبير! كما أن استقرار حقيقة الإيمان في حياة البشر - أو جماعة منهم - معناه اتصال هذه الحياة الأرضية بالحياة الأبدية، وارتفاعها إلى المستوي الذي يؤهلها لهذا الاتصال. معناه اتصال الفناء بالبقاء والجزء بالكل والمحدود الناقص بالكمال المطلق... وهي حصيلة تربى على كل جهد وكل تضحية ولو تحققت على الأرض يوما أو بعض يوم في عمر البشرية الطويل، لأن تحققها - ولو في هذه الصورة - يرفع أمام البشرية في سائر أجيالها مشعل النور في صورة عملية واقعية، تجاهد لتبلغ إليها طوال الأجيال! ولقد أثبت الواقع التاريخي المتكرر أن النفس البشرية لم تبلغ إلى آفاق الكمال المقدر لها بأية وسيلة كما بلغتها باستقرار حقيقة الإيمان باللّه فيها. وأن الحياة البشرية لم ترتفع إلى هذه الآفاق بوسيلة أخرى كما ارتفعت بهذه الوسيلة. وأن الفترات التي استقرت فيها هذه الحقيقة في الأرض، وتسلم أهلها قيادة البشرية كانت قمة في تاريخ الإنسان سامقة، بل كانت حلما أكبر من الخيال، ولكنه متمثل في واقع يحياه الناس.
وما يمكن أن ترتقي البشرية ولا أن ترتفع عن طريق فلسفة أو علم أو فن أو مذهب من المذاهب أو نظام، إلى المستوي الذي وصلت أو تصل إليه عن طريق استقرار حقيقة الإيمان باللّه في نفوس الناس وحياتهم وأخلاقهم وتصوراتهم وقيمهم وموازينهم.. وهذه الحقيقة ينبثق منها منهج حياة كامل، سواء جاءت مجملة كما هي في الرسالات الأولى، أو مفصلة شاملة دقيقة كما هي في الرسالة الأخيرة.
والدليل القاطع على أن هذه العقيدة حقيقة من عند اللّه هو هذا الذي أثبته الواقع التاريخي من بلوغ البشرية باستقرار حقيقة الإيمان في حياتها ما لم تبلغه قط بوسيلة أخرى من صنع البشر : لا علم، ولا فلسفة، ولا فن، ولا نظام من النظم. وأنها حين فقدت قيادة المؤمنين الحقيقيين لم ينفعها شيء من ذلك كله بل انحدرت قيمها وموازينها وإنسانيتها، كما غرقت في الشقاء النفسي والحيرة الفكرية والأمراض العصبية، على الرغم من تقدمها الحضاري في سائر الميادين، وعلى الرغم من توافر عوامل الراحة البدنية والمتاع العقلي، وأسباب السعادة المادية بجملتها. ولكنها لم تنل السعادة والطمأنينة والراحة الإنسانية أبدا. ولم يرتفع تصورها للحياة قط كما ارتفع في ظل الحقيقة الإيمانية، ولم تتوثق صلتها بالوجود قط كما توثقت في ظل هذه العقيدة، ولم تشعر بكرامة «النفس الإنسانية» قط كما شعرت بها في تلك الفترة التي استقرت فيها تلك الحقيقة. والدراسة الواعية للتصور الإسلامي لغاية الوجود كله وغاية الوجود الإنساني تنتهي حتما إلى هذه النتيجة.