ورواه مسلم بلفظ آخر يدل على أن أول ما نزل : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [القلم ٩٦/ ١ - ٥].
ووجه الجمع بين الرأيين : أن أول شيء نزل بعد فترة الوحي هذه السورة، كما
قال الإمام أحمد والشيخان عن جابر أنه سمع رسول اللّه - ﷺ - يقول :«ثم فتر الوحي عن فترة، فبينا أنا أمشي، سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءني قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجثثت - فزعت - منه فرقا - أي خوفا -، حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي، فقلت لهم : زمّلوني زمّلوني، فزمّلوني، فأنزل اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ثم حمي الوحي وتتابع».
وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال : إن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاما، فلما أكلوا منه قال : ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال بعضهم : ساحر، وقال بعضهم : ليس بساحر، وقال بعضهم : كاهن، وقال بعضهم : ليس بكاهن، وقال بعضهم : شاعر، وقال بعضهم : ليس بشاعر، وقال بعضهم : بل سحر يؤثر، فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر، فبلغ ذلك النبي - ﷺ -، فحزن وقنّع رأسه وتدثر، فأنزل اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ، وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ، وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ. (١)
وهي مكية كلها عند بعضهم، وقال بعضهم هي مكية إلا آية وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً... وعدد آياتها ست وخمسون آية وهي تشمل إرشادات للنبي - ﷺ - يحتاج إليها في دعوته، ثم تهديد زعيم من زعماء الشرك، وتطرق الكلام إلى وصف جهنم ومن فيها، وهذه السورة والتي قبلها متشابهتان إلى حد ما، فالأولى في إعداد النبي - ﷺ - كداعية، والثانية ترشده إلى ما به ينجح في دعوته. (٢)
مكية قال ابن عطية بإجماع وفي التحرير قال مقاتل إلّا آية وهي وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً [المدثر : ٣١] إلخ وسيأتي إن شاء اللّه تعالى ما يشعر بأن قوله تعالى عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر : ٣٠] مدني بما فيه وآيها ست وخمسون في العراقي والمدني الأول وخمس وخمسون في الشامي والمدني الأخير على ما فصل في محله، وهي متواخية مع السورة قبلها في الافتتاح بنداء النبيّ - ﷺ - وصدر كليهما نازل على المشهور في قصة واحدة وبدئت تلك بالأمر بقيام الليل وهو عبادة خاصة وهذه بالأمر بالإنذار وفيه من تكميل الغير ما فيه. وروى أمية الأزدي عن جابر بن زيد وهو من علماء التابعين بالقرآن أن المدثر نزلت عقب المزمل

(١) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (٢٩ / ٢٠٥) وتفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (٢٩ / ١٢٤)
(٢) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (٣ / ٧٧٣)


الصفحة التالية