والواقع أن المستشرق نولدكه Noldeke كان مقتنعا بضرورة ترتيب القرآن زمنيا على غير الطريقة الإسلامية، وقد رسم لنفسه منهجا جديدا تأثر به كثيرون، فأصبح موضوع هذا الترتيب يشغل أذهان المستشرقين جميعا، ويعلقون عليه أخطر النتائج في عالم الدراسات القرآنية.
وقد ظهرت في أروبة في منتصف القرن التاسع عشر محاولات لترتيب سور القرآن ودراسة مراحله التاريخية، منها محاولة وليم موير William Muir الذي قسم المراحل القرآنية إلى ست، خمس في مكة وسادستها في المدينة٢.
واعتمد فيها -إلى حد غير قليل- على سيرة الرسول - ﷺ - وأسانيدها بعد دراستها دراسة نقدية حشد لها الكثير من معلوماته التاريخية٣، ولكنه وقع -مع ذلك- في أخطاء عديدة وأخذ بروايات واهية، والمقارنة في هذا المجال بينه وبين غريم Grimme ستظل ممكنة ميسورة.
ومنها محاولة ويل Weil التي بدأها سنة ١٨٤٤ ولم تتخذ صورتها النهائية إلا سنة ١٨٧٢، ولا يقيم فيها وزنا للروايات والأسانيد الإسلامية٤، لذلك كانت في نظر بلاشير "الطريقة الوحيدة المثمرة حقا"٥، وكان من قبله في نظر نولدكه نقطة الانطلاق في أجرأ محاولة لترتيب القرآن فبها أخذ، وعلى كثير من أسسها بنى دراسته.
وكان ويل Weil قد قسم المراحل القرآنية إلى أربع: ثلاث في مكة ورابعة في المدينة، فتابعه على ذلك نولدكه سنة ١٨٦٠ عندما ظهر كتابه عن "تاريخ القرآن"١ للمرة الأولى، مع إجراء بعض التعديلات الطفيفة في محتويات كل مرحلة على حدة، ثم تابعه مرة ثانية مع نظائر هذه التعديلات عندما شاركه شفالي Schwally في نشر الكتاب منقحا مزيدًا.
وقد تأثر بهذه الطريقة كل من بل٢ R.Bell ورودويل Rodwell٣ وبلاشير رضي الله عنlachere٤ وتظل ترجمته بلاشير للقرآن في نظرنا أدق الترجمات، للروح العلمي الذي يسودها، لا يغض من قيمتها إلا الترتيب الزمني للسور القرآنية بطريقة يعترف بلاشير نفسه بأنها لا تخلو من تعسف في إطلاق الأحكام٥ دعا إليه ما يعتقده من أن القرآن وحده نقطة الانطلاق في تعاقب المراحل الإسلامية، وترتيب السور، وتدرج التعاليم، وأن سيرة الرسول - ﷺ - والأخبار التي يرويها الصحابة عنه لا يمكن أن تستقل وحدها بإيضاح شيء سكت عنه القرآن، وإنما تكمل تكميلا ثانويا ما جاء في نص القرآن٦.
أما نحن فلا نرتاب قط -بعد الذي عرضناه من تشدد علمائنا في استقصاء كل ما يتعلق بالمكي والمدني- في أن الرواية الصحيحة هي الطريقة الوحيدة إلى ترتيب القرآن أمثل ترتيب زمني وأصلحه وأدقه، والروايات في هذا المجال لم ترد إلا عن الصحابة الذين شاهدوا مكان الوحي وعرفوا زمانه، أو التابعين الذين سمعوا وصف ذلك وتفصيله من الصحابة. أما رسول الله - ﷺ - فلم يرد عنه شيء من هذا القبيل،