لأنه عليه الصلاة والسلام -كما يقول القاضي أبو بكر١ في "الانتصار": "لم يؤمر به، ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة"٢.
ولا ريب أن كثيرا من الصحابة كانوا على علم كامل بالمكي والمدني به استطاعوا أن يستقصوا تلك الجزئيات الدقيقة التي حفلت بها كتب التفسير بالمأثور والمؤلفات الكثيرة في علوم القرآن، وقد أشرنا إلى جملة صالحة منها على سبيل التمثيل والاستشهاد، وفي وسعنا أن نكون فكرة عن غزارة علم الصحابة في هذه الموضوعات من خلال قول ابن مسعود: "والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله تعالى إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت"٣ ولكن ابن مسعود -مهما نصف من سعة علمه- ليس الرجل الوحيد الذي أقسم هذا القسم منفردا به من بين سائر الصحابة، فقد أقسم نحوا من قسمه علي أيضًا، وقد كان بين الصحابة بلا ريب من أتيح له أن يشهد ما شهد هذان الصحابيان الجليلان، وربما رأى بعضهم أكثر مما رأياه، بل نحن لا نستبعد أن يكون بين مجاهيل الصحابة من يكمل برواية تحملها شيئا فات علماء الصحابة ومشاهيرهم٤.
لذلك لم يكن الاعتماد على الرواية الصحيحة متنافيا مع إعمال الفكر والاجتهاد، ولا سيما في الموضوعات التي لا تكون فيها الرواية نصا صريحا، ولهذا الاجتهاد صور وأشكال متنوعة في مبحث المكي والمدني فقد يقع الاختلاف في مكية بعض السور أو مدنيتها، وفي استثناء آيات مكية من سورة مدنية أو آيات مدنية من سورة مكية، وفي ترتيب ما نزل بمكة أو المدينة، وفي الخصائص الأسلوبية أو الموضوعية لكل من المكيي والمدني، ثم لا يفصل في الاختلاف إلا بضروب من الاجتهاد.
فإذا زعم النحاس١ أن سورة النساء مكية مستندا إلى أن قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾٢ نزل بمكة اتفاقا في شأن مفتاح الكعبة، تصدى له السيوطي يضعف رأيه قائلا: "وذلك مستند واه، لأنه لا يلزم من نزول آية أو آيات من سورة طويلة نزل معظمها بالمدينة أن تكون مكية، خصوصا أن الأرجح أن ما نزل بعد الهجرة مدني. ومن راجع أسباب نزول آياتها عرف الرد عليه. ومما يرد عليه أيضا ما أخرجه البخاري عن عائشة قالت: "ما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده"، ودخولها عليه كان بعد الهجرة اتفاقًا"٣.
وإذا كان في كل من المكي والمدني آيات مستثناة، فمن العلماء من اعتمد في استثنائها على الاجتهاد دون النقل٤. ولا يعارض هذا ما ورد عن ابن عباس: "كانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة، ثم يزيد الله فيها ما شاء"، لأن إلحاق المكي بالمدني أو المدني بالمكي يعرف وجه الحكمة فيه حينئذ عن طريق الاجتهاد: مثاله سورة الإسراء فهي مكية؛ إلا أنهم استثنوا منها ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾٥ فرجحوا أنها آية مدنية "نزلت في وفد ثقيف، أتوا النبي - ﷺ - فسألوه شططا، وقالوا: متعنا بآلهتنا


الصفحة التالية
Icon