حتى نأخذ ما يهدى لها. فإذا أخذناه كسرناها وأسلمنا، وحرمنا وادينا كما حرمت مكة، حتى تعرف العرب فضلنا عليهم"١.
ويعين العلماء -تبعا للروايات والأسانيد- السور المكية والسور المدنية٢ ثم يرتبونها حسب تعاقبها في النزول، وإذا هم يترددون في أول ما نزل وآخره٣، ويصل بهم الأمر إلى الاختلاف في سورة الفاتحة التي يرتلها المسلمون في كل ركعة من ركعات الصلاة، فيرى بعضهم أنها مكية وآخرون أنها مدنية٤، ويؤثر فريق ثالث القول بنزولها مرتين٥، ثم يرجح بعضهم أنها أول ما نزل بمكة، فهي إذن أول ما نزل على الإطلاق٦، ويرجح آخرون أن عددا من السور كان أسبق منها في النزول، ففي مثل هذه المواطن يتنافس العلماء في إيراد الحجج والبراهين، وهي حجج إلى الاجتهاد أقرب منها إلى النقل، فهذا عالم كالواحدي يستبعد مثلا أن يقوم الرسول - ﷺ - خلال بضع عشرة سنة بمكة يؤدي الصلاة من غير الفاتحة٧! والواحدي -كما نعلم- لم يقم بدراسته "لأسباب النزول" في كتابه المشهور إلا على الروايات والأسانيد، لكن باب الاجتهاد والاستنباط مفتوح دائما على مصراعيه حتى عند أصحاب النقل والنص!
والمستشرق بلاشير بدلا من أن يرى في تفكير الواحدي هنا محاولة للاجتهاد والاستنباط، يستشعر فيه ضربا من استسلام اليائس الذي انقطع كل رجاء عنده في معالجة الموضوع، فاعترف بجهله ووجد السلامة في هذا الاعتراف!١.. ولا نرى بلاشير في هذا إلا مغاليا، فليس من شأن العلماء أن يقطعوا جازمين في أمر خطير كالذي يتعلق بترتيب الوحي القرآني، وإنما حسبهم أن يحاولوا -كما صنع الواحدي- ترجيح شيء على شيء، والجهل لا يعالج دائما بالقطعي من الأمور، فالترجيح وحده كاف لتحصيل العلم والمعرفة. وليست غايتنا هنا الدفاع عن الواحدي، بل التنبيه على أن كثيرا من جزئيات المكي والمدني انتهى به العلم إلينا عن طريق الاجتهاد، وأن العقل كالنقل، والقياس كالسماع، في ثبوت العلم بالشيء، وقد لاحظ الجعبري هذا حين قال: "لمعرفة المكي والمدني طريقان: سماعي وقياسي٢"، وعرف السماعي بأنه "ما وصل إلينا نزوله بأحدهما"، ثم أنشأ يذكر أمثلة وشواهد على القياسي. وإذا قرأنا أمثلته بأمثلة العلماء الذين مارسوا القرآن وتذوقوا فنونه وأساليبه استنبطنا من مجموعها ضابطا قياسيا نستطيع به أن نميز السور المكية والمدنية، ونتعرف إلى طابع كل منها وخصائصه، وسنرى أن هذا الضابط قلما يتخلف عند التطبيق.
من خصائص السور المكية تبعا لهذا الضابط:
١- أن كل سورة فيها سجدة فهي مكية٣.
٢- أن كل سورة فيها لفظ "كلا" فهي مكية. ولم ترد إلا في النصف الأخير من القرآن١.