مصحف أبيّ والمثبت مقدم على النافي، وبأن خبر ابن ميمون إن سلمت صحته محتمل لعدم سماعه ولعله قرأها سرا، ويدل على كونها سورة مستقلة ما أخرج البخاري في تاريخه والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الخلافيات عن أم هانىء بنت أبي طالب أن رسول اللّه - ﷺ - قال :«فضل اللّه تعالى قريشا بسبع خصال لم يعطها أحد قبلهم ولا يعطاها أحد بعدهم : أني فيهم وفي لفظ النبوة فيهم، والخلافة فيهم، والحجابة فيهم، والسقاية فيهم، ونصروا على الفيل، وعبدوا اللّه تعالى سبع سنين. وفي لفظ عشر سنين لم يعبده سبحانه أحد غيرهم، ونزلت فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها أحد غيرهم لإيلاف قريش». وجاء نحو هذا الأخير في خبرين آخرين أحدهما عن الزبير بن العوام يرفعه والثاني عن سعيد بن المسيب عنه - ﷺ - ويؤيد الاستقلال كون آيها ليست على نمط آي ما قبلها وأنت تعلم أنه بعد ثبوت تواتر الفصل لا يحتاج إلى شيء مما ذكر. (١)
تحدثت هذه السورة عن نعم الله الجليلة على أهل مكة، حيث كانت لهم رحلتان : رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى الشام من أجل التجارة، وقد اكرم الله تعالى قريشا بنعمتين عظيمتين من نعمه الكثيرة هما : نعمة الأمن والإستقرار، ونعمة الغنى واليسار [ فليعبدوا رب هذا البيت، الذي أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف ]. (٢)
مقصودها الدلالة على ضد ما دلت عليه الفيل بأن إهلاك الجاحدين المعاندين لإصلاح المقربين العابدين، وهو بشارة عظيمة لقريش خاصة بإظهار شرفهم في الدارين، واسمها قريش ظاهر الدلالة على ذلك، والتعبير بقريش دون قومك أو الحمس مثلا ونحوه دال على أنهم يغلبون الناس أجمع بقوة كما يدل عليه الاسم، وبغير قوة كما دل عليه ما فعل لأجلهم من قصة الفيل (٣)
استجاب اللّه دعوة خليله إبراهيم، وهو يتوجه إليه عقب بناء البيت وتطهيره :«رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ».. فجعل هذا البيت آمنا، وجعله عتيقا من سلطة المتسلطين وجبروت الجبارين وجعل من يأوي إليه آمنا والمخافة من حوله في كل مكان.. حتى حين انحرف الناس وأشركوا بربهم وعبدوا معه الأصنام.. لأمر يريده سبحانه بهذا البيت الحرام.
ولما توجه أصحاب الفيل لهدمه كان من أمرهم ما كان، مما فصلته سورة الفيل. وحفظ اللّه للبيت أمنه، وصان حرمته وكان من حوله كما قال اللّه فيهم :«أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ؟».

(١) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (١٥ / ٤٧٠)
(٢) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (٣ / ٥٢٦)
(٣) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (٨ / ٥٣٣)


الصفحة التالية
Icon