أصل التعامل والتعاقد، وأنه لا بقاء لصلة ولا وشيجة إذا هي تعارضت مع العقيدة! ومن ثم كانت لليهود فرصة للتوجيه والتشكيك والبلبلة. وكان هناك من يسمع لقولهم في الجماعة المسلمة ويتأثر به. وكان هناك من يدفع عنهم ما يريد النبي - ﷺ - أن ينزل بهم من إجراءات لدفع كيدهم عن الصف المسلم (كما حدث في شفاعة عبد اللّه بن أبي في بني قينقاع، وإغلاظه في هذا للرسول - ﷺ - ).
ومن ناحية أخرى كان المسلمون قد انتصروا في بدر ذلك النصر الكامل الباهر بأيسر الجهد والبذل. فقد خرج ذلك العدد القليل من المسلمين، غير مزودين بعدة ولا عتاد - إلا اليسير - فلاقوا ذلك الجحفل الضخم من قريش في عدتهم وعتادهم. ثم لم تلبث المعركة أن انجلت عن ذلك النصر المؤزر الباهر.
وكان هذا النصر في الوقعة الأولى التي يلتقي فيها جند اللّه بجند الشرك قدرا من قدر اللّه. ندرك اليوم طرفا من حكمته. ولعله كان لتثبيت الدعوة الناشئة وتمكينها. بل لإثبات وجودها الفعلي على محك المعركة، لتأخذ بعد ذلك طريقها.
فأما المسلمون فلعلهم قد وقع في نفوسهم - من هذا النصر - أنه الشأن الطبيعي الذي لا شأن غيره. وأنه لا بد ملازمهم على أي حال في كل مراحل الطريق! أليسوا بالمسلمين؟ أليس أعداؤهم بالكافرين؟ وإذن فهو النصر لا محالة حيثما التقى المسلمون بالكافرين! غير أن سنة اللّه في النصر والهزيمة ليست بهذه الدرجة من البساطة والسذاجة، فلهذه السنة مقتضياتها في تكوين النفوس، وتكوين الصفوف، وإعداد العدة، واتباع المنهج، والتزام الطاعة والنظام، واليقظة لخوالج النفس ولحركات الميدان.. وهذا ما أراد اللّه أن يعلمهم إياه بالهزيمة في «غزوة أحد» على النحو الذي تعرضه السورة عرضا حيا مؤثرا عميقا، وتعرض أسبابه من تصرفات بعض المسلمين وتوجه في ظله العظات البناءة للنفس وللصف على السواء.
وحين نراجع غزوة أحد نجد أن تعليم المسلمين هذا الدرس قد كلفهم أهوالا وجراحات وشهداء من أعز الشهداء - على رأسهم حمزة رضي اللّه عنه وأرضاه - وكلفهم ما هو أشق من ذلك كله على نفوسهم.. كلفهم أن يروا رسولهم الحبيب تشج جبهته وتكسر سنه، ويسقط في الحفرة، ويغوص حلق المغفر في وجنته - ﷺ - الأمر الذي لا يقوم بوزنه شيء في نفوس المسلمين! ويسبق استعراض «غزوة أحد» وأحداثها في السورة قطاع كبير تستغرقه كله توجيهات متشعبة لتصفية التصور الإسلامي من كل شائبة ولتقرير حقيقة التوحيد جلية ناصعة، والرد على الشبهات التي يلقيها أهل الكتاب، سواء منها ما هو ناشئ من انحرافاتهم هم في معتقداتهم، وما يتعمدون إلقاءه في الصف المسلم من شبهات ماكرة لخلخلة العقيدة وخلخلة الصف من وراء خلخلة العقيدة.
وتذكر عدة روايات أن الآيات من ١ - ٨٣ نزلت في الحوار مع وفد نصارى نجران اليمن الذي قدم المدينة في السنة التاسعة للهجرة. ونحن نستبعد أن تكون السنة التاسعة هي زمن نزول هذه الآيات.


الصفحة التالية
Icon