كان في مكة قوم طغاة معاندون، يضطهدون رسول الله والمؤمنين، فناسب أن ينزل على الرسول في مكة مثل قوله تعالى: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ﴾١. وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ﴾٢، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ﴾٣. وهكذا كثر في مكة نزول الآيات التي تقرع المشركين، وتشتد في تسفيه أحلامهم، وتسلي الرسول والمؤمنين وتعلمهم السماحة والصفح الجميل. أما المدينة فكان فيها بعد الهجرة ثلاثة أصناف من الناس: المؤمنون من مهاجرين وأنصار، ثم المنافقون، ثم اليهود. أما اليهود فجادلهم القرآن ودعاهم إلى كلمة سواء، وأما المنافقون ففضحهم وكشف مساوئهم، وأما المؤمنون فشجعهم -من ناحية- على المضي في الصراط المستقيم، وشرع لهم -من ناحية ثانية- ما يتعلق بالسلم والحرب، وبحياة الفرد والمجموع، وبالسياسة والاقتصاد. هذه الزكاة مثلا لا معنى لفرضها في مكة والقوم فقراء مضطهدون. وتلك صلاة الخوف التي لا تكون إلا في الحرب لا يمكن أن تشرع في مكة، لأن المؤمنين لم يؤذن لهم بالقتال إلا في المدينة، وقد خلت السورة المكية خلوا تاما من ذكر الجهاد وكل ما يتعلق بالحرب.
ولو أخذنا برأي أبي القاسم النيسابوري الذي التزم المنهج التاريخي الزمني في ترتيب المكي والمدني لكان علينا -تطبيقا له وتأثرا به- أن نقسم كلا من السور المكية والسور المدنية إلى ثلاث مراحل: ابتدائية، ومتوسطة، وختامية، ولا نتجشم كبير عناء في تعيين هاتيك المراحل إذا عولنا على أصح الأسانيد وأخذنا بمقاييس النقاد المحدثين. وترددنا في القسم المدني سوف يكون يسيرا بل لا يكاد يكون شيئا مذكورا، إذ انتشر في المدينة الإسلام، وحفظ القرآن، وكثر القراء الكاتبون، وتيسرت وسائل النسخ والنقل والرواية والتفقه في الدين. أما القسم المكي فقد كان منطق الأحداث نفسه يقتضي وقوع التردد في تصوير مراحله، ولا سميا في أوائله، لأن الإسلام بدأ بمكة غريبا، ولم يؤمن برسول الله - ﷺ - في أعوام الوحي الأولى إلا نفر قليل، فلم يتيسر لغير السابقين الأولين منهم تقصي أطوار التنزيل، وتحري أوائلها على وجه التحديد.
بيد أننا إن ندع جانبا ما اختلف العلماء المحققون في ترتيبه الزمني وعجزوا فيه عن تعيين السابق والمسبوق، لا يتعذر علينا أن نضع أيدنا على زمر متشابهة، وفصائل متماثلة، تبرز فيها ملامح صريحة نجزم معها بأنها مرحلة أولى أو متوسطة أو نهائية في مكة أو في المدينة.
فمن السور التي اتفق المؤرخون والمفسرون على أنها من أوائل الوحي، أو أنها بعبارتنا الحديثة من المرحلة المكية الأولى: العلق، والمدثر، والتكوير، والأعلى، والليل، والشرح، والعاديات، والتكاثر، والنجم.
ومن المرحلة المتوسطة في مكة: عبس، والتين، والقارعة، والقيامة، والمرسلات، والبلد، والحجر.