ومن المرحلة الختامية في مكة: الصافات، والزخرف، والدخان، والذاريات، والكهف، وإبراهيم، والسجدة.
وهذه الزمر الثلاث -وإن بدت سمات المكي واضحة عليها- تتفاوت تفاوتا يسيرا فكرة وأسلوبا حتى لتبدو كل زمرة منها، بل كل سورة منها، وحدة فكرية إيقاعية قائمة بذاتها. وما سنلمحه في تحليلنا الخاطف لها لا يعدو الإيماء إلى أبرز ما يتمثل في ألفاظها وفواصلها والعقائد التي انطوت عليها آياتها المعجزات.
ففي سورة العلق -التي رأينا في فصل ظاهرة الوحي أنها أول ما نزل من القرآن١- تصوير حي لأضخم حدث في تاريخ البشر شهدت به الإنسانية نفسها تولد ميلادا جديدًا يصلها بالسماء وأسرارها ولا يلصقها بالأرض وأوحالها، فيوجه المقطع الأول من هذه السورة محمد رسول الله إلى الاتصال بالملأ الأعلى والقراءة باسم الله٢، فمنه المنشأ وإليه المصير، وهو الذي كرم الإنسان بتعليمه أسرار الوجود، وتمكينه من استعمال "القلم" رمز العلم والتعليم، مع أنه خلقه من شيء مهين، "من علق" دم جامد عالق بالرحم في قرار مكين٣.
وفي مطلع سورة المدثر -وقد نزل كما رأينا بعد فترة الوحي٤- ينادي الله نبيه إلى قيام لا نوم فيه، ونشاط لا يعرف الكسل، فليثب من فراشه وثبا، وليترك الدثار الدافئ فإن أمامه كفاحا طويلا ثقيلا: إن الخطر القريب يترصد الضالين الغافلين، فعلى رسول الهدى أن يوقظ الهجع الرقود، مكبرا ربه العظيم، مستصغرا كل كيد في هذا الوجود، مطهرا ثيابه أمارة على طهارة قصده، هاجرا كل شرك ودنس، محاربا بلا هوادة كل موجبات العذاب، باذلا أقصى ما يبلغه المجاهدون من التضحية دون من ولا استكثار١.
وتعالج سورة "التكوير" ثلاث حقائق لا تنقطع صلتها بالعقيدة والإيمان: حقيقة الانقلاب الكوني يوم القيامة، وحقيقة الوحي الخالد والدعوة العالمية، وحقيقة الإرادة الإنسانية المرتبطة بمشيئة الله العليم الحكيم٢.
أما الانقلاب الكوني فيبدو في مطلع السورة هائلا مروعا، يشتمل الشمس التي بردت وانطفأت شعلتها، والنجوم التي انتثرت وانطمس ضياؤها، والجبال التي نسفت وذريت هباء في الهواء وسيرت كالسراب، ومرت مر السحاب، والنوق الحبالى في شهرها العاشر وقد أهملت من الفزع في كل مكان، مع أنها لدى العربي أجود النياق، والوحوش الشاردة في الشعاب وقد تجمعت من الهول وتلاصقت منها الجنوب، والبحار التي التهبت مياههن حتى تفجرت بالنيران، وفاضت بالحمم والمحرقات، والأرواح المتجانسة وقد انضم بعضها إلى بعض في زمر وأزواج، والأنثى التي وئدت في غلظة يطرح عليها وحدها سؤال، وتخص وحدها بالاستجواب: ما سر وأدها؟ وكيف يكون إنسانا من أقدم على وأدها وهي على قيد الحياة؟