ويشمل هذا الانقلاب الكوني أيضا نشر صحف الأعمال حتى لا تخفى يومئذ خافية، وإزاحة السقف المرفوع في القبة الزرقاء، وتسعير الجحيم وإذكاء حرها بوقودها من الناس والحجارة، وتقريب الجنة من السعداء حتى لتبدو كالعروس في زينتها تغري خطيبها بالدنو منها والالتصاق بها واستنشاق عبيرها، فيومئذ تعلم كل نفس ما قدمت وأخرت، وما أحضرت معها من زاد يخفف عنها شيئا من العذاب!.
وتمهيدًا لذكر الحقيقة الثانية المتعلقة بالوحي وطبيعته، ينتقل السياق إلى قسم رشيق أنيق بمشاهد من الكون خلعت عليها الحياة، وقذفت فيها الروح: فبالكواكب التي تجري في السماء ثم تعود للتوارى في أفلاكها كأنها الظباء تعدو رشيقة ثم ترجع إلى كنسها فتختبئ فيها وتلتمس الراحة بعد العدو الشديد، وبالليل الذي لف الكون بسواده حتى بات لا يرى نفسه ولا يبصر دربه، فهو يتخبط في سراه تخبط الأعشى، ويجس بيده كل شيء في الظلام مجسة الأعمى، وبالصبح الذي ولد بعد ذهاب الليل، فأبصر النور وتحرك، وتفتح قلبه للحياة فخفق وتنفس، بهذه المشاهد الكونية الحية أقسم الله: أن لا دخل لمحمد في الوحي، فإنما يلقنه إياه -بأمر ذي العرش- ملك كريم، له من القوة ما يمكنه من حمل أمانة السماء إلى أهل الأرض، وله من المكانة ما يجعله مطاعا من الملائكة جميعا في الملأ الأعلى.
وبهذه المشاهد الحية أيضا أقسم الله: إن محمدا أمين على الوحي، راجح العقل، وقد صاحبه أهل مكة أربعين عاما قبل البعثة فعرفوه وسموه الصادق الأمين، وها هو ذا الآن يخبرهم بأنه رأى ملك الوحي بعينيه في الأفق الواضح المبين الذي لا يزيغ عنده البصر ولا يطغى١، فكيف يظنون به الظنون؟ وكيف يزعمون أنه مجنون تتنزل عليه الشياطين؟
وفي هذا المقطع نفسه يذكر الله أهل مكة بأن هذا الوحي لم يوجه إليهم وحدهم، وما كان ليوجه إليهم وحدهم، بل هو دعوة عالمية١ لا بد أن تنتصر مهما يقاوموها الآن ويطاردوا المؤمنين بها. وباب هذه الدعوة مفتوح على مصراعيه لكل من أراد أن يستقيم على الحق والهدى.
أما الحقيقة الثالثة فقد ختمت بها سورة "التكوير" بآية واحدة حاسمة جازمة قررت بأن الإرادة الحقيقية الفاعلة هي إرادة الله، فما لأحد إرادة منفصلة عن إرادة العليم الخبير، بل هو الذي قدر فهدى، وألهم الإنسان إرادة بها يختار لولاها لما شرف بالتكليف.
وفي سورة "الأعلى"٢ تمجيد لاسم الخالق الذي أتقن كل شيء، ورسم له طريقه، وهداه إلى غاية وجوده، وعرض لبعض آثاره في خلقه حين قدر لكل دابة في الأرض رزقها من مرعى أخضر، أو غثاء ذاو ضارب إلى السواد، وكفالة ربانية بتحفيظ النبي القرآن ونقشه في لوح قلبه من غير أن يبذل شيئا من الجهد في حفظه، ومن غير أن يحتمل نسيان حرف واحد منه لأن الحفظ كالنسيان أمران متعلقان بالمشيئة الإلهية الطليقة من كل قيد، لا بالإنسان الذي يظل -مهما يسم- عرضة للسهو والنسيان، وبشري للنبي