والمؤمنين بتيسيرهم لحمل هذه الدعوة اليسرى، والنهوض بأماناتها الكبرى، وتصوير لاختلاف وجهات الناس إزاء هذه الدعوة المباركة: فمنهم الذي يؤمن بالله، ويرجو رحمته، ويخاف عذابه، ومنهم الذي شقي في الدنيا بنفسه المظلمة الكنود، وفي الآخرة بعذابها الأليم الشديد: فلن يموت في جهنم فيستريح ولن يحيا في راحة واطمئنان، وموعظة لكل ذي فطرة سليمة تؤكد أن الفلاح للزكاة والطهر، والخسران للرجس والدنس، وتنذر بفناء الدنيا العاجلة وبقاء الآخرة الخالدة، وفي ختام هذه السورة تذكير بوحدة الدين، فإن الذي ينزله الرب الخالق الأعلى على قلب محمد قد أنزل مثله من قبل على شيخ الأنبياء إبراهيم وعلى كليم الله موسى: فهي عقيدة واحدة، وتعاليم واحدة، ليس لها إلا مصدر واحد هو الله رب العالمين١.
وفي سورة "الليل"٢ يقسم الله بتقلب الليل والنهار، وخلق الذكر والأنثى، على أن طرائق الناس في الحياة مختلفة، فلا بد أن تكون مصائرهم مختلفة أيضا: فكما تقابل صورة النهار السافر صورة الليل الغامر، وتعاكس طبيعة الأنثى اللطيفة طبيعة الذكر الخشنة، ينافر سعي المتقين عمل المجرمين، ويضاد ثواب السعداء عقاب الأشقياء. ولن يسكب الله الرضوان إلا في قلب من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى.
وفي سورة "الشرح" مناجاة رقيقة حلوة يضع الله فيها عن نبيه ضائقة حلت به وثقلت على ظهره حتى كادت تحطمه، ويبشره بانفراج كربه، وانشراح صدره، وتيسير أمره، ورفع مكانته في الأرض وفي السماء، وقرن اسمه باسمه في الصباح وفي المساء، ويدعوه إلى التفرغ لعبادته كلما تجرد عن الناس وعن شواغل الحياة في طريق الدعوة الطويل٣.
وفي سورة "العاديات"١ يقسم الله بخيل الغارة التي تعدو في ساحة المعركة ضابحة صاخبة لاهثة الأنفاس، وتصك الصخر بحوافرها صكا يقدح النار ويوري الشرر، وتقتحم أرض العدو بغارة صباحية مفاجئة تثير بها الغبار، وتتوسط الجموع وتجوس خلال الديار، ثم تملأ الصفوف ذعرًا وتلجئهم إلى الفرار٢... يقسم الله بهذه الخيل العاديات الصاخبات الثائرات على أن الإنسان جاحد نعمة ربه يقيم من نفسه شاهدا على جحوده، ولا يحمله على هذا الكفر إلا ما فطر عليه من حب المال والخير ومتاع الحياة، فليطلق الإنسان نفسه من أغلالها، وليطف بخياله مشهد مصيره المحتوم ومصائر إخوانه البشر أجمعين حين يبعثون من مراقدهم، فتبعثر قبورهم، وتحصل أسرار صدورهم ويخبرهم ربهم بكنودهم وجحودهم، ويجزون سؤء العذاب على ما قدمت أيديهم.
وفي سورة "التكاثر" إنذار رهيب للغافلين اللاهين الذين يتكاثرون بالأموال والبنين، حتى ينتهوا إلى زيارة المقابر الضيقة، فلا يجدوا في حفرها المظلمة فرصة للتنافس. إن الهول الأكبر سيحيق بهم فيستيقظون على حقيقته الرهيبة بعد أن طالت سكراتهم، ويرون الجحيم وعذابها بأم أعينهم، ويستصغرون -وهم يعاينون العذاب المقيم- كل ما أصابوه من ألوان النعيم٣.