هذه مثلا سورة "عبس" -من المرحلة المكية المتوسطة، ومن أوائلها على وجه اليقين- تعالج حادثة من حوادث السيرة بتوجيه القلوب إلى حقيقة القيم، وحقيقة الحياة، وحقيقة الإنسان، وحقيقة الفزع الأكبر يوم القيامة. وتعالج السورة هذه الحقائق الضخمة بإيحاءات شديدة التأثير، ولمسات عميقة النفاذ، وصور وارفة الظلال، وفواصل قوية الإيقاع.
عبس النبي وأعرض عن ابن أم مكتوم، المؤمن الأعمى الفقير، وقد جاء يسأله أن يعلمه مما علمه الله. فليعقب القرآن على هذا الحادث الفردي، وليعتب على النبي عتابا شديدًا١، وليدعه إلى استبدال قيم السماء بقيم الأرض، وموازين الشريعة العادلة بمواضعات البشر الجائرة، وليجعل الله هذا الحادث درسا بليغا وتذكرة لا تنسى للنبي وللمؤمنين ﴿كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ﴾٢.
ما كان للنبي أن يعرض عن هذا الأعمى ويعبس ويتولى، فإن هذا الاعمى لأكرم عند الله بتقاه من أصحاب النسب والقوة لجاه، وإن كل قيم الحياة لا يقام لها وزن متى تجردت من الإيمان وتعرت من التقوى.
تلك هي حقيقة القيم، أما حقيقة الحياة فقصة ذات مراحل وفصول. تتراءى في فصولها كلها يد حانية لطيفة تدبر للأحياء، في عالم الإنسان والحيوان، طعامهم الذي يقيم أودهم، ويحفظ صحتهم، فتصب عليهم ماء السحاب صبا، وتسلك هذا الماء ينابيع في الأرض، ثم تتركه يتخلل التربة الخصبة وينفذ فيها ويشقها شقا ليعين النبات على النماء والانبثاق من التراب، والامتداد في الهواء، وإذا بالنبات يستحيل حبًّا يقضم، وعنبا يعصر، أو فاكهة تؤكل غضة طرية، أو زيتونا ينبت بالدهن، أو نخلا باسقات، وإذا بالحدائق التي ينبت فيها هذا النبات ملتفة الأشجار، متشابكة الأغصان، فيها من الثمار ما يتفكه به الإنسان، ومن المراعي ما يسد حاجة الحيوان.
وكان ينبغي للإنسان أن يدرك حقيقة الحياة، وحقيقة القيم، لأنه الحي المجهز بكل أسباب الحياة، ولكنه ظلوم جهول، وجحود كفور، فقد نسي أصل نشأته من نطفة من ماء مهين، وتجاهل تكريم الله إياه بتيسير صعابه في درب الحياة، وإيداعه جوف الأرض بعد الممات، فقصر في أداء حق الله وقضاء واجبه نحو الله، واسترسل في جحوده كأنه متروك سدى بلا حساب ولا عقاب. فما أعجب حقيقة الإنسان، وما أعجب كفر الإنسان!.
ولكن حقيقة مذهلة كبرى تنتظر الإنسان يوم الهلع والفزع الأكبر، يوم تقوم الساعة فتصخ الآذان صخا ملحاحا، فما يسمع الإنسان غير أصواتها النافذة العنيفة، ويذهل بكربها عن أقرب الناس إليه، ولا يفكر إلا بنفسه ومصيره، وللناس يومئذ صنفان من الوجوه: إما وجوه السعداء بتهللها ونورها وبشراها، وإما وجوه الأشقياء بانقباضها وسوادها وحزنها، فطوبى للمؤمنين وساءت مصائر الكفرة الفجرة١.