ويريد القرآن أن يعرض حقيقة الفطرة الإنسانية وهي قويمة سليمة، وحقيقتها حين تنحرف عن الصراط المستقيم، فيجعل سورة "التين" معرضا لهذا، وفي إطار من القسم ببعض الثمار المباركة والأماكن المقدسة١ يكرم الله الإنسان، ويمتنُّ عليه بتكوينه الفطري المقوم، وتصويره الجسمي المعدل، والارتقاء به جسدا وروحا إلى المقام الأسنى، ثم يلوح باستعداده للهبوط النفسي، والانحلال الخلقي، والانحدار إلى أسفل سافلين إلا إذا أضاءت له الفطرة مسالك الحياة، فبصرته بحقيقة الإيمان، ورغبته بصالح الأعمال، وانتهت به إلى الكمال، وأورثته جنات النعيم، فهل للإنسان بعد إدراك الحقيقة أن يطمس نور الفطرة، فيكذب بدين الله، ويتجاهل حكمة الله، وينساق مع غيه وهواه٢؟
وفي آيات مدوية رهيبة تقذف الرعب في القلوب يصور القرآن مشهدا سريعا من مشاهد القيامة يقفيه بمشهد الجزاء والحساب. وذلك في سورة "القارعة" التي تقرع بهولها كل شيء، حتى ليغدو الناس في غمراتها حيارى خفافا صغارًا كالفراش المتهافت لا يعرف لم يطير ولا أين المصير، وتمسي الجبال الرواسي هباء تذروه الرياح كالصوف المتطاير المنفوش، فليتوقع الإنسان في ذلك الهول المرهوب عيشة راضية إن أحسن عملا، أو نارا حامية وهلاكا أبديا إن أساء وكان شقيا.
وإن تتطاير الجبال الثقال يوم القارعة تطاير الصوف والهباء، فما أحوج الإنسان إلى الموازين الثقال تعوض خفته لئلا يتهافت كالفراش١.
وفي سورة "القيامة" يرسم القرآن الانقلاب الكوني الشامل الهائل في ومضات سريعة تأكيدا للبعث وردًا على منكريه، ويطمئن النبي إلى نقش الوحي في صدره فلا تدركنه العجلة التي أدركت البشر في حب الحياة الفانية، ويحدد بإيجاز شديد مصير السعداء ومصير الأشقياء، ويصور مشهد الاحتضار الذي كتب على كل حي، ويذكر الإنسان بنشأته الأولى ليقيس عليها نشأته الآخرة.
وتوطئة لتصوير الانقلاب الكوني يلوح الله بالقسم بيوم القيامة وبالنفس التقية اللوامة على أن البعث واقع والساعة آتية لا ريب فيها، وإذا كان الإنسان يستبعد جمع العظام وهي رميم فإن الله يقدر على ما هو أدق وأجل: إذ يسوي له أطراف أصابعه ويعيد تركيبها في مواضعها على اختلاف "بصماتها" وأشكالها، فعلام الفجور؟ ولم يستبعد الإنسان البعث والنشور؟
وتأكيد البعث بهذا الأسلوب القوي الذي يواجه القلب الغافل ويحاصره كان أصلح تمهيد بين يدي الانقلاب الكوني يوم يقوم الناس لرب العالمين: فما أسرع الانقلاب في كل شيء يوم القيامة! إن الإنسان الفزع القلق ليرى الكون كله مختل النظام ببصره الحائر الزائغ المتقلب، فما للقمر نور بعد أن طمس، ولا للشمس مشرق بعد أن اقترنت بالقمر، ولا للإنسان ملجأ يقيه الهول الشديد بعد أن سيق إلى الله ليحاسب على ما قدمت يداه!