الفواصل باسم أو اسمين متتالين من أسماء الله الحسنى٢، وظلت الألفاظ تنتخب انتخابا، رشيقة تارة عنيفة تارة أخرى، وهي في كلتا الحالين تهز المشاعر الراقدة بالبيان الرفيع، والسحر الخلاب!.
الآن نمضي إلى المرحلة المكية الثالثة الختامية، فيفاجئنا فيها -أكثر ما يفاجئنا- طولها بوجه عام آيات وسورًا، وإن كان الأغلب عليها طول السور دون الآيات، وهذا الطول نفسه -حيثما يلاحظ- ليس شيئا ذا بال إذا قيس بعدد الآيات في السور المدنية أو بعدد الألفاظ في الآية المدنية الواحدة، ولكنه بلا ريب يعد طولا بالنسبة إلى ما يتوقعه القارئ في جميع المراحل المكية من تناسق القرآن مع ما يرغبه فصحاء مكة من إيجاز التعبير تعويلا على الإشارة الخفية أو الإيماءة البارعة المحكمة.
وطول هذه السور سيحول دون تحليلنا لجميع ما ذكرناه منها، فبدلا من أن نتناول بالدراسة الخاطفة كل ما سردناه١ سنكتفي بإبراز الملامح الأساسية لسور منها ثلاث هي: الصافات، والكهف، وإبراهيم، ويقاس بعد ذلك سائرها على هذي الثلاث.
أما "الصافات" فتقع في اثنتين وثمانين ومائة آية، متعددة الفواصل، متنوعة الإيقاع في آياتها الإحدى عشرة الأوائل، ثم تلتزم فيها حتى نهايتها فاصلتا الواو والنون، والياء والنون، وأحيانا الياء والميم.
ومن خلال مقاطع السورة المتتابعة تبرز طائفة من الأفكار والمشاهد والمواقف المترابطة المتناسقة التي ترتد كلها إلى بناء العقيدة في النفوس خالصة من الشرك: فمن تثبيت فكرة التوحيد إلى تأكيد فكرة البعث وتصوير بعض المفاجآت يوم القيامة، ومن الملائكة الصافات إلى الشياطين المستمعين إلى الملأ الأعلى ورجمهم بالشهب الثاقبة، ومن تكذيب المشركين بالنبي إلى عرض سلسلة من قصص الرسل: نوح وإبراهيم وابنه الذبيح وفي حادثة الفداء بمواقفها المؤثرة الموحية، ومن حملة على أسطورة العرب في الملائكة إلى وعد الله لرسله بالنصر المبين.
أقسم الله بالملائكة الصافات لربها في السماء٢ الماثلات بين يديه صفا صفا في ارتقاب أمره، وتنفيذ مشيئته، وزجر المكذبين لرسله، وتلاوة الذكر٣ على أصفيائه من خلقه، على أنه واحد لا شريك له في ذاته ولا في ملكه.
وإن وحدانيته سبحانه لأبلغ رد على تلك الأسطورة الحمقاء التي افترضت قرابة بين الله -جل وعلا- وبين الجن: فقد زعمت العرب أن الله تعالى تزوج الجنة فولدت من هذا التزاوج الملائكة، فهن بنات الله! وفي سورة الصافات رد على هذه الفرية الجهلاء في أربع مواطن: أولها المطلع الذي رسم -من خلال القسم- صورة الملائكة قائمات بأمر الله، صفوفا بين يديه، نازلات بالوحي على قلوب النبيين، فهن من خلق الله في عالم الغيب المستور.