والموضع الثاني في قوله: ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ﴾١، فما بين السموات والأرض من مخلوقات دقيقة، وما يعرج بينهما من ملائكة مطهرين وأرواح علوية، خلق من خلقه، وعبيد من عباده، يعترفون له بالألوهية والوحدانية والقدرة.
والموضع الثالث: في رجم الشياطين الذين يحاولون استراق السمع، مع أنهم -بزعم العرب- هم "الجنة" الذين جعلوا بينهم وبين الله نسبا، فما بالهم يطاردون في السماء، ويقذفون بالشهب، رغم قرابتهم المزعومة مع الله الكبير المتعال؟
والموضع الرابع الأخير قبيل خاتمة السورة في تلك الحملة العنيفة الساخرة على هذه الفرية السخيفة المتهافتة، وفي استفتاء القرآن أولئك الحمقى عن منشأ أسطورتهم، وعن أسرار تأنيثهم الملائكة، وعن أسباب نسبتهم ما يكرهون إلى الله. وهكذا كانت وحدانية الله في ذاته أبلغ رد على أسطورة العرب في الملائكة والشياطين!.
على أن الحديث عن رجم الشياطين بالشهب إنما جاء عقب الحديث عن تزيين السماء الدنيا بالكواكب، فقد أودع الله الكواكب خصيصتين تكمل إحداهما الأخرى، أولاهما خصيصة التزيين والتجميل حتى لا تقع العين في السماء إلا على البهاء والجمال، والثانية خصيصة الحفظ والرصد حتى لا يستمع شيطان متمرد ما يدور في الملأ الأعلى: فهذه الكواكب حفظة للسماء تطرد العتاة عن بابها برجوم من نار، وتدحرهم دحرا فيولون الأدبار.
وإن قيام الكواكب بوظيفتيها كلتيهما على الوجه الأدق الأكمل لبرهان صادق على تناسق هذا الكون، وجريان كل شيء فيه بقدر، وتحرك كل ما فيه بقدرة الله الخالق البارئ المصور.
ومشركو مكة -بدلا من أن يتدبروا صنعة الخالق الذي أتقن كل شيء- يلجون في عتوهم ونفورهم، ويتمادون في غيهم وغرورهم، كأنهم يحسبون أنفسهم أشد خلقا من الملائكة الصافات، أو أقوى تمردا من الشياطين العتاة١، وإذا هم ينكرون البعث بعد أن يصيروا ترابا وعظاما، ويرمون القرآن بالسحر شكا وارتيابا، فيأمر الله نبيه -في موقفهم العجب- بتذكيرهم بنشأتهم الأولى من طين رخو لزج، وإنذارهم بصيحة البعث تزجرهم زجرة واحدة وتسوقهم وأزواجهم وما كانوا يعبدون إلى أرض المحشر، فيجدون أنفسهم فجاءة في الجحيم أذلة مستسلمين، ثم يتبرأ بعضهم من بعض ويعترفون باستحقاقهم العذاب الأليم.
وسنة القرآن في مقابلة مصير الأشقياء بمصير السعداء لا تتبدل، فهنا تصوير وارف الظلال لمظاهر التكريم التي أعدها الله للمخلصين من عباده: بدأ باستثنائهم من العذاب الأليم، ثم آتاهم ما تشتهيه أنفسهم في جنات النعيم، فهم يتكئون على السرر في راحة واطمئنان، ويتناولون الفواكه من قطوف ذللت تذليلا،