ويتساقون خمرا علوية لا تصدع الرءوس ولا تقطع لذة الشراب"١، ويضاعف لهم هذا النعيم بأنبل صحبة وأسماها وأحلها مع أزواجهم الحييات المصونات من الحور الحسان الناعمات.
وإنهم لفي نعيمهم هذا إذ يذكر أحدهم قرينا له كان في الدنيا يكذب بالبعث والنشور، فيذهب السعداء لتفقد هذا القرين والتطلع إلى مصيره، فيجدونه في وسط الجحيم، ويوجه السعيد إلى قرينه الشقي كلمات التأنيب، وفي خلالها يحمد الله على أن جعله وإخوانه من الأتقياء المخلصين.
ويطلق القرآن هنا الموازنة إلى أبعد مدى، وهو يبسط أمام المكذبين الجاحدين الفرق الشاسع بين تقلب السعداء في أعطاف النعيم وغصص الأشقياء وهم يأكلون من شجرة الزقوم، وهي شجرة جهنمية خبيثة تناهت في القبح وإثارة الرعب حتى أشبهت رءوس الشياطين التي يتصورها الخيال أقبح ما تكون٢، وكلما احترقت حلوقهم من الظمأ واللهيب شربوا ماء حميما غاليا عكرا فقطع أمعاءهم، وكلما التمسوا ملجأ يقيهم هذا الويل الشديد ردوا إلى قعر جهنم، وساءت مستقرا ومقاما.
ويذكر القرآن هؤلاء الضالين بأسباب ضلالهم، فإنهم مقلدون يهرعون على آثار آبائهم، ولا يقارنون مقارنة منطقية بين مصيرهم المظلم ومصير المؤمنين المشرق السعيد، ولكن أسلافهم ضلوا من قبل مع أن النذر أرسلوا فيهم متتابعين، فلم ينج من العذاب العاجل إلا المصطفون الأخيار.
وفي معرض هذا التذكير الذي يفيض بالإيحاءات المؤثرة، ويهز القلوب الغالفة هزا شديدا، رسم القرآن في لمحات عجلى قصة نوح الذي استجاب الله دعاءه فنجاه وأهله من الكرب العظيم، وأغرق المكذبين به، وقصة إبراهيم الذي حطم أصنام قومه، فهموا به ليقتلوه، وبنوا له بنيانا ليحرقوه فأنقذه الله من كيدهم وجعل النار بردا عليه وسلاما وقصة موسى وهارون اللذين اصطفاهما الله لرسالته، وآتاهما التوراة فيها هدى ونور، وكتب لهما النصر على فرعون وملئه المفسدين، وقصة إلياس الذي أنكر على قومه عبادتهم بعلا وإعراضهم عن أحسن الخالقين، وقصة لوط الذي نجاه الله وأهله -إلا امرأته- من الزلزال والدمار، وأمطر قومه الضالين حجارة من سجيل، فساء مطر المنذرين، وقصة يونس الذي ضاق ذرعا بتكذيب قومه فخرج مغاضبا آبقا، فركب سفينة مشحونة، واقترعوا حين تلاعبت بها الرياح والأمواج على من يلقونه منها تخفيفا لوزنها الثقيل، فخرجت القرعة ليونس فألقي في البحر والتقمه الحوت وهو مستحق للوم على قنوطه ومغاضبته، ثم سبح الله في بطن الحوت فاستجاب الله دعاءه، فأخرجه من بطنه ونبذه على الشاطئ عاريا سقيما، ولما أبل من مرضه دعا قومه إلى عبادة الله فآمنوا كلهم وكانوا مائة ألف أو يزيدون١.
هذه القصص جميعا رسمت أحداثها سورة "الصافات" في ومضات سريعة برزت من خلالها عاقبة المكذبين واستجابة الله لعباده المخلصين، فكان فيها إنذار للمشركين بسوء المصير ودعوة للنبي إلى الصبر الجميل.