ولذلك خص إبراهيم الخليل في سلسلة هذه القصص بسياق أطول، ومراحل أكثر إسهابا وتفصيلا، حين عرضت حادثة فداء ابنه بمواقفها المؤثرة، وحوارها الأخاذ، وأسلوبها الرهيب، فقد أبرزت هذه الحادثة -بعد قصة تحطيم إبراهيم للأصنام- لما توحي به من الاستسلام لله، والاطمئنان إليه والثقة به، وهي الزاد الحقيقي لكل داعية يتحلى بالصبر الجميل، في طريق الدعوة الطويل:
ذهب إبراهيم إلى ربه، وهجر كل شيء في سبيله، وسأله أن يهبه ولدا صالحا، فبشره بغلام حليم١، وما كاد هذا الغلام يرافق أباه في درب الحياة، ويبلغ معه السعي في آفاقها، حتى تعرض لأقسى محنة فصبر واستسلم. لقد رأى إبراهيم في منامه أنه يذبح ابنه، فأدرك أنها إشارة من ربه، فاستجاب راضيا مطمئنا، وأخبر ابنه برؤياه فوجده مستسلما صابر، ولكنه حين كب ابنه على جبينه استعدادا لذبحه فداه الله بكبش عظيم يذبحه، وعده وفيا بعهده، مؤديا لمهمته، وناداه: ﴿أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾.
وبانتهاء سلسلة هذا القصص القرآني -ما أوجز عرضه وما أسهب به- تتجه المقاطع الأخيرة من سورة "الصافات" إلى مناقشة العرب في أسطورتهم عن الملائكة والشياطين، تأكيدا لتوحيد الله وتنزيهه عما يصفه به الجاهلون٢. وفي اختتام السورة -بعد ذلك- بآيات التحميد والتسبيح تناسق تام بين البداية والنهاية: فقد أقسم الله في المطلع على أنه واحد، منزه عن كل شريك في ذاته أو ملكه، وختم السورة بالتسبيح بحمده تنزيها له أيضا عن كل شريك. وإن في هذا لبرهانا دامغا على وحدة الموضوع في السورة الواحدة مهما تطل آياتها وتتشعب فيها الجزئيات.
وأطرف ما في الحملة القرآنية على الأسطورة العربية في الملائكة والشياطين التنزل إلى خطاب العرب بمنطقهم نفسه ليعرفوا من تلقاء أنفسهم سخف ما تخيلوه وزعموه. فالنبي العربي الأمي مدعو إلى استفتاء العرب الأميين عن استئثارهم بالبنين من دون الله الذي ينسبون إليه البنات، فهل يفضل الله البنات على البنين؟ أم شهدوا مولد الملائكة فعرفوا جنسهم؟ أم افتروا على الله كذبا وهم يعلمون؟
وكيف طوعت لهم أنفسهم أن يزعموا أن بين الله وبين الجنة نسبا، مع أن الجن يعلمون أنهم -ككل خلق الله- يحضرون يوم القيامة ليحاسبوا على ما قدمت أيديهم؟ إن أباطيلهم هذه لن تخدع إلا من في قلبه مرض ومن تؤهله طبيعته الفاسدة لدخول الجحيم.
وليت أولئك المبطلين يسمعون رد الملائكة على أسطورتهم الحمقاء، فإنهم في الملأ الأعلى ما ينفكون يناجون ربهم بلسان الحال أو المقال مرددين: إنا صافون١ صفا بين يديك، نسبح بحمدك ونقدس لك، وننزهك عن الصاحبة والولد وعن كل شريك!.