وأما إقامته الجدار بلا مقابل فلم تكن خدمة لأهل القرية البخلاء، وإنما كانت فرصة لصيانة كنز تحت الجدار ليتيمين صغيرين خبأ لهما أبوهما ذاك الكنز ليستخرجاه من تحت الجدار متى بلغا أشدهما، فلما رآه البعد الصالح ينقض أقامه بإذن الله لئلا ينكشف أمره لأهل المدينة فينتزعوا ملكيته من أيدي الصغيرين اليتيمين.
وبهذا التأويل لم يزعم العبد الصالح لنفسه علم الغيب، بل إلى الله حكمة ما صنع، واعترف بعجزه المطلق عن فعل أمر لم يأذن به الله، وكان رمزا للعلم الغيبي اللدني الذي يتمثل -بإرادة الله- في شخص رجل من الناس، ليس بالنبي المعروف ولا الرسول المشهور، فقد سكت حتى عن اسمه القرآن!٢.
ولعل القصة الثالثة عن ذي القرنين تبدو -في الظاهر- أضعف صلة بشئون الغيب من قصتي أصحاب الكهف والعبد الصالح. فإنها لا تعدو أن تكون وصفا لرحلات ثلاث إلى الشرق والغرب والوسط قام بها رجل يسمى ذا القرنين. لكن الجو الغامض الذي أحيط بهذه الرحلات، وتراءى غموضه كالمقصود في القرآن، يلوح بالمعاني الغيبية من وراء ستار: فقد بلغ ذو القرنين هذا مغرب الشمس في رحلته الأولى، ومشرقها في رحلته الثانية، والمنطقة المتوسطة "بين السدين" في رحلته الثالثة.
وفي رحلته الغربية وجد الشمس تغرب في عين ﴿حَمِئَةٍ﴾ كثيرة الطين اللزج١، في موضع تكثر فيه المياه والأعشاب، وقد سكت القرآن عن تحديد تلك العين "الحمئة"، فألقانا الغموض المقصود في تجهيل شديد ربما كان يفوق سرية الأمور المسماة "بالغيبة".
وفي رحلته الشرقية وجد الشمس تطلع على قوم لا ستر لهم دونها، فربما أفاد هذا أن القوم كانوا عراة، وربما أشار إلى أن أرضهم مكشوفة تطلع الشمس عليهم فيها بلا ساتر، وليس في النص ما يقطع بأسماء القوم ولا باسم الأرض التي كانوا فيها ينزلون.
أما رحلته المتوسطة بين ﴿السَّدَّيْنِ﴾ فكل ما فيها يدعو إلى الرهبة الشديدة التي يفوق الشعور بها أحيانا شعور التهيب لدى مواجهة الغيب وأسراره: فالقرآن هنا يذكر موضعا بعينه يسميه ﴿بَيْنَ السَّدَّيْنِ﴾ مثلما يذكر قوما بأعيانهم يسميهم ﴿يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ﴾ ويصفهم بالإفساد في الأرض٢. وما نظن هذه الألوان من الغموض إلا مقصودة في هذا السياق، فإن حديث القرآن عن ذي القرنين لا يشبه -ولا ينبغي أن يشبه- حديث كتاب في السيرة عن الفتوحات التي أتمها فاتح عظيم، وإنما يرسم القرآن -في غضون هذه الرحلات الثلاث- ملامح إنسان شديد الصلة بالله، لم يكن سلطانه بقوته الشخصية بل مكن الله له في الأرض، وآتاه من كل شيء سببا، وهتف به أو ألهمه أو أوحى إله -كما يريد- في الملمات ليوجهه أفضل الوجهات، حتى قال له عند العين الحمئة: ﴿يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا﴾.