وتبدو صلته بالله شديدة وثقى في قوله للقوم -عند بناء السد: ﴿مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي﴾ ثم قوله عند انتهائه من هذا البناء: ﴿هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا﴾١.
وهكذا اختيرت تلك القصص الثلاث في سورة "الكهف" لمعالجة شئون الغيب، وردها جميعا إلى الذي يحفها بالأسرار، ولا يميط عنها اللثام إلا بمقدار، ولا يأذن لأحد برؤيتها إلا من وراء ستار.
وإذا صححنا الرواية التي تزعم أن أهل مكة بعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة لالتماس أسئلة منهم تحرج محمدًا - ﷺ -، وأن أولئك الأحبار أغروا رسولي قريش بسؤال النبي الكريم "عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان لهم من حديث عجيب، وعن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه"٢، تجلى لنا في هذه السورة عمق الدرس القرآني الذي اتجه إلى المؤمنين ينهاهم عن الرجم بالغيب، ويحذرهم من الجدل العقيم، ويصل قلوبهم بربهم علام الغيوب: فالموضوع الذي هدفت إليه السورة هو -بالمقام الأول- بناء العقيدة بناء سليما في ذات الله، وفي شئون الغيب الموكولة إلى علم الله.
وفي السورة بعد ذلك ومضات سريعة تخللت بعض مقاطعها مصغرة للقيم المادية١، معرضة بفناء الدنيا وسرعة زوالها٢، داعية إلى صبر الأنفس مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، مؤكدة أن الاعتزاز الحقيقي إنما يكون بالإيمان والتقوى٣، وأن الكافرين بلقاء ربهم هم الأخسرون أعمالا٤. ولا ريب أن تخلل السورة بهذه الومضات السريعة يتناسق مع محورها الأساسي الذي رأيناه يدور حول بناء العقيدة، فلا بد في هذا البناء من تصحيح النظر إلى قيم الأشياء ومقاييس الحياة.
ومع سورة "إبراهيم" ننتهي إلى الحلقة الأخيرة المختارة من سور المرحلة المكية الختامية، فيخيل إلينا أننا نواجه فيها تكرارا لحقائق شديدة الشبه بما عرفناه في تحليل السور المكية الماضية، ولا سيما في أواخر المرحلة الثانية، وأن عيوننا تقع فيها أيضا على مشاهد مكررة وكأنها ظلال المشاهد السابقات:
فإن أبرز الحقائق التي تعالجها سورة "إبراهيم" وحدة الدعوة التي نادى بها رسل الله، وتنزيه الله عن كل شريك، وتذكير المشركين بالبعث والحساب، وعرض آلاء الرحمن التي يكفر بها الإنسان، وإن أبرز المشاهد التي رسمتها سورة "إبراهيم" مواقف المكذبين المعاندين للأنبياء، وصور المجرمين في جهنم والمتقين في الجنات، وسياط التبكيت والتأنيب تصب على الإنسان الظلوم الكفار الذي يتعامى عن صفحات الكون الجميلة وهي معروضة على الأنظار١.
وإنها لنظرة عجلى لا يكتفي بمثلها إلا الذي يقرأ القرآن غافلا عن الأضواء الخاصة التي تتوهج في كل سورة، وعن الإيحاءات الخاصة التي يبثها في القلوب كل مقطع قرآني جديد.


الصفحة التالية
Icon