ولعل أهم ما امتازت به هذه السورة أن مظللة في جميع مقاطعها بشخصية النبي الصفي الذي سميت باسمه: شيخ الأنبياء إبراهيم. فمن خلال دعوته المباركة برزت وحدة الرسالة في جميع الأجيال، وفي ظلال إيمانه الراسخ نبتت فكرة التوحيد، وفي إطار من قلبه المنيب رسمت لوحات الكون الجميل، ثم صورت مواقف الشكر والجحود.
وينبغي ألا يفوتنا أن إبراهيم إنما ذكر في وسط السورة أثناء الحديث عن نعم الله التي لا تحصى، وأن صورته فيها جسمت "نموذج" الصبار الشكور، الذي لا ينفك يبتهل إلى الله ويسبح بحمده بكرة وعشيا، ولكن هذه الصورة طبعت السياق كله طبعة واحدة وتركت في كل مقطع منه ظلا من إبراهيم الخليل.
ولقد جاء في مطلع السورة ذكر موسى، ثم تلاه ذكر قوم نوح وعاد وثمود، إلا أن هذه الأسماء الضخمة -رغم تمهل السياق في عرض طائفة من الأحداث المرتبطة بها- لم يكن لها في محور السورة توجيه: فما تحدثت الآيات عن موسى، وإخراجه قومه من الظلمات إلى النور، وتذكيره إياهم بنجاتهم من آل فرعون١، إلا ليكون رمزا لوحدة الرسل التي نادى بها إبراهيم، لذلك لم يلبث السياق أن انتقل إلى حقيقة الرسالة وحقيقة دعوتها إلى الاعتقاد بالله الواحد، على لسان نوح وعاد وثمود: ففي أزمنة مختلفة ومواضع متعددة جاء أولئك الرسل جميعا بأصول متماثلة بينة لا تخفى حقائقها على أولي القلوب والأبصار. وكل رسول من أولئك المصطفين الأخيار كان يثير انتباه قومه إلى شكهم المريب كلما تعاموا عن آيات الله في السموات والأرض، وكل رسول منهم كان يقرر بشريته ولا ينكرها قائلا لقومه المكابرين: ﴿إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾٢، وما كان فيهم إلا مواجه للطغيان، صبور على الاضطهاد، متوكل على الله، كأن كلا منهم صورة مكررة من أبيه إبراهيم: به يقتدي، وعلى آثاره يسير، وهكذا برزت وحدة الرسالة ونبتت فكرة التوحيد في ظلال من إيمان إبراهيم.
ثم تقلب في السورة صفحات مضيئة من كتاب الكون الكبير: في الماء المنهمر من السماء، والثمر النابت من الأرض، والشمس بضيائها الوهاج، والقمر بنوره الفضي، وفي كل صفحة من تلك الصفحات نرى أبا الأنبياء إبراهيم قارئا يتدبر، خاشعا يتبتل، كأن دعاءه الضارع يتكرر كلما لهج لسان بحمد الله! وهكذا رسمت لوحات الكون الجميل في إطار من قلبه المنيب.
ويريد الله في هذه السورة أن يمد ظلال "خليله" على هذه اللوحات مدا، فيصور دعاءه الخاشع صاعدا إليه ذاهبا في السماء، حين يسأله للبلد الحرام الأمن والسلام، ويرجوه أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام، ويطمع في رضاه عن كل من تبع سبيله، ولا يستعجل لمن حاد عن الصراط عذاب الخزي والهوان، ويحمد الله على أن وهبه على الكبر إسماعيل وإسحاق، ويختم بابتهال ضارع أن يغفر الله له ولوالديه وللمؤمنين يوم يقوم الحساب١.


الصفحة التالية
Icon