وكذلك قوله - تعالى - : قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ... مترتب على كلام محذوف يفهم من سياق الآيات.
والتقدير : وبعد أن سمع ما قالته النسوة بشأنه عند ما دخل عليهن بأمر من امرأة العزيز، وسمع تهديد هذه المرأة له بقولها : قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ.
بعد أن سمع يوسف كل ذلك، وتيقن من مكرهن به، لجأ إلى ربه مستجيرا به من كيدهن فقال : رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ....
وأيضا قوله - تعالى - : وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ.... يعتبر من بديع أسلوب الإيجاز بالحذف، إذ تقدير الكلام : وبعد أن عجز الملأ عن تفسير رؤيا الملك، وقالوا له : إن رؤياك أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين، قال الذي نجا منهما، أى : من صاحبي يوسف في السجن وهو الساقي وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أى وتذكر بعد نسيان طويل أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ إلى من عنده تفسير هذه الرؤيا تفسيرا صحيحا - وهو يوسف - فاستجابوا له وأرسلوه إلى يوسف، فذهب إليه في السجن، فلما دخل عليه قال له : يا يوسف يا أيها الصديق، أفتنا في سبع بقرات سمان... إلخ.
وهذا الأسلوب الذي زخرت به السورة الكريمة، وهو أسلوب الإيجاز بالحذف، من شأنه أنه ينشط العقول، ويبعثها على التأمل والتدبر فيما تقرؤه، ويعينها على الاتعاظ والاعتبار..
وهو أسلوب أيضا تقتضيه هذه السورة الكريمة، لأنها تتحدث عن قصة نبي من أنبياء اللّه - تعالى -. والحديث عن ذلك يستلزم إبراز جوهر الأحداث ولبابها، لا إبراز تفاصيلها وما لا فائدة من ذكره.
فاشتمال السورة الكريمة على هذا الأسلوب البليغ، هو من باب رعاية الكلام لمقتضى الحال، وهو أصل البلاغة وركنها الركين.
(ج) السورة الكريمة اهتمت اهتماما واضحا بشرح أحوال النفس البشرية وتحليل ما يصدر عنها في حال رضاها وغضبها، وفي حال صلاحها وانحرافها، وفي حال غناها وفقرها، وفي حال عسرها ويسرها، وفي حال صفائها وحقدها..
وقد حدثتنا عن الشخصيات التي وردت فيها حديثا صادقا أمينا، كشفت لنا فيه عن جوانب متعددة من أخلاقهم، وسلوكهم، وميولهم، وأفكارهم... وأعطت كل واحد منهم حقه في الحديث عنه.
(ا) فيوسف - عليه السلام - وهو الشخصية الرئيسية في القصة - حدثتنا عنه حديثا مستفيضا نستطيع من خلاله، أن نرى له - عليه السلام - مناقب ومزايا متنوعة من أهمها ما يأتى :


الصفحة التالية
Icon