على أن القائلين بتنزيلات القرآن الثلاثة لا يفوتهم -بعد بيان حكمه هذا التعدد في أماكن النزول١- أن يشيروا إلى أسرار تنزله الثالث الأخير منجما بحسب الوقائع، وهذه الأسرار قد بلغت من الوضوح حدا لا تخفى معه على أحد، "ولولا أن الحكمة الإلهية -كما يقولون- اقتضت وصوله إليهم منجما بحسب الواقع لأهبطه إلى الأرض جملة كسائر الكتب المنزلة قبله، ولكن الله باين بينه وبينها فجعل له الأمرين: إنزاله جملة ثم إنزاله مفرقا، تشريفا للمنزل عليه"٢.
ويعنينا من أقوالهم تطلعهم إلى أسرار التدرج في نزول القرآن، فقد أوشكوا عند بلوغ هذه الناحية من البحث ألا يتركوا مجالا لقائل بعدهم، إذ لاحظوا في التدرج الحكمتين اللتين أشرنا إليهما، وهما تجاوب الوحي مع الرسول - ﷺ -، وتجاوبه مع المؤمنين، وإن كان تعبيرهم عن ذلك يختلف قليلا عن تعبيرنا.
ولتجاوب الوحي مع الرسول - ﷺ - صورتان: إحداهما تثبيت فؤاده بما يتجدد نزوله من القرآن بعد كل حادثة، والثانية تيسير حفظ القرآن عليه.
وقد أشار إلى الصورة الأولى أبو شامة٣ في قوله:" فإن قيل: ما السر في نزوله منجما؟ وهلا أنزل كسائر الكتب جملة؟ قلنا: هذا سؤال قد تولى الله جوابه فقال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾ يعنون: كما أنزل على من قبله من الرسل، فأجابهم تعالى بقوله: ﴿كَذَلِكَ﴾ أي: أنزلناه مفرقا ﴿لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ أي: لنقوي به قلبك، فإن الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثة كان أقوى للقلب، أشد عناية بالمرسل إليه، ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه، وتجدد العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجناب العزيز، فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة، ولهذا كان أجود ما يكون في رمضان١ لكثرة لقياه جبريل"٢.
ولقد راع القرآن خيال العرب وأخذ أسماعهم بما فيه من أنباء الرسل مع أقوامهم، تتكرر بصورة مختلفة، وأساليب متنوعة، فتزداد حلاوة كلما تكررت، ولا غرض لها في أكثر المواطن التي ذكرت فيها إلا تثبيت قلب الرسول - ﷺ - وقلوب المؤمنين. ونطق القرآن بذلك فقال: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾٣: ففي ذكر قصص الرسل، وتفريقه، وتنوعيه، تقوية لقلب الرسول - ﷺ - وعزاء له على ما يلقاه من أذى قومه، وما كان محمد بدعا من الرسل، فهم جميعا عذبوا وكذبوا واضطهدوا: ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾٤.
وهكذا ما انفك القرآن يتجدد نزوله مهونا على الرسول - ﷺ - الشدائد، مسليا له مرة بعد مرة، محببا إليه التأسي بمن قبله من الرسل، يأمره تارة بالصبر أمرًا صريحا فيقول: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾١، ويقول: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾٢ وينهاه تارة أخرى عن الحزن نهيا صريحا، كما في قوله: ﴿فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾٣، وقوله: {وَلا يَحْزُنْكَ


الصفحة التالية
Icon