السورة الكريمة بسورة النحل " لاشتمالها على تلك العبرة التي تشير إلى عجيب صنع الخالق، وتدل على الألوهية بهذا الصنع العجيب (١)
مقصودها الدلالة على أنه تعالى تام القدرة والعلم، فاعل بالاختيار، منزه عن شوائب النقص، وادل ما فيها علىهذا المعنى أم النحل لما ذكر من شأنها من دقة الفهمة في ترتيب بيوتها ورعيها وسائر أمرها من اختلاف ألوان ما يخرح منها من أعسالها، وجعله شفاء مع أكلها من الثمار النافعة والضارة - وغير ذلك من الأمور، ووسمها بالنعم واضح في ذلك - والله أعلم. (٢)
هذه السورة هادئة الإيقاع، عادية الجرس ولكنها مليئة حافلة. موضوعاتها الرئيسية كثيرة منوعة والإطار الذي تعرض فيه واسع شامل والأوتار التي توقع عليها متعددة مؤثرة، والظلال التي تلونها عميقة الخطوط.
وهي كسائر السور المكية تعالج موضوعات العقيدة الكبرى : الألوهية. والوحي. والبعث. ولكنها تلم بموضوعات جانبية أخرى تتعلق بتلك الموضوعات الرئيسية. تلم بحقيقة الوحدانية الكبرى التي تصل بين دين إبراهيم - عليه السلام - ودين محمد - ﷺ - وتلم بحقيقة الإرادة الإلهية والإرادة البشرية فيما يختص بالإيمان والكفر والهدى والضلال. وتلم بوظيفة الرسل، وسنة اللّه في المكذبين لهم. وتلم بموضوع التحليل والتحريم وأوهام الوثنية حول هذا الموضوع. وتلم بالهجرة في سبيل اللّه، وفتنة المسلمين في دينهم، والكفر بعد الإيمان وجزاء هذا كله عند اللّه.. ثم تضيف إلى موضوعات العقيدة موضوعات المعاملة : العدل والإحسان والإنفاق والوفاء بالعهد، وغيرها من موضوعات السلوك القائم على العقيدة..
وهكذا هي مليئة حافلة من ناحية الموضوعات التي تعالجها.
فأما الإطار الذي تعرض فيه هذه الموضوعات، والمجال الذي تجري فيه الأحداث، فهو فسيح شامل..
هو السماوات والأرض. والماء الهاطل والشجر النامي. والليل والنهار والشمس والقمر والنجوم. والبحار والجبال والمعالم والسبل والأنهار. وهو الدنيا بأحداثها ومصائرها، والأخرى بأقدارها ومشاهدها. وهو الغيب بألوانه وأعماقه في الأنفس والآفاق.
في هذا المجال الفسيح يبدو سياق السورة وكأنه حملة ضخمة للتوجيه والتأثير واستجاشة العقل والضمير.
حملة هادئة الإيقاع، ولكنها متعددة الأوتار. ليست في جلجلة الأنعام والرعد، ولكنها في هدوئها تخاطب كل حاسة وكل جارحة في الكيان البشري، وتتجه إلى العقل الواعي كما تتجه إلى الوجدان

(١) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (٢ / ١٠٢)
(٢) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (٤ / ٢٤٣)


الصفحة التالية
Icon