فحدثهم، فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجبا وإنكارا وارتد ناس ممن كان آمن به وسعى رجال إلى أبي بكر - رضي اللّه عنه - فقال : أو قال ذلك؟ قالوا نعم. قال : فأنا أشهد لئن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا : فتصدقه في أن يأتي في الشام في ليلة واحدة ثم يرجع إلى مكة قبل أن يصبح؟ قال :
نعم أنا أصدقه بأبعد من ذلك. أصدقه بخبر السماء! فسمي الصدّيق. وكان منهم من سافر إلى بيت المقدس فطلبوا إليه وصف المسجد، فجلى له، فطفق ينظر إليه وينعته لهم، فقالوا : أما النعت فقد أصاب. فقالوا : أخبرنا عن عيرنا. فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها وقال : تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق.
فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية - لمراقبة مقدم العير - فقال قائل منهم : هذه واللّه الشمس قد شرقت.
فقال آخر : وهذه واللّه العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق، كما قال محمد.. ثم لم يؤمنوا!.. وفي الليلة ذاتها كان العروج به إلى السماء من بيت المقدس.
واختلف في أن الإسراء كان في اليقظة أم في المنام. فعن عائشة - رضي اللّه عنها - أنها قالت : واللّه ما فقد جسد رسول اللّه - ﷺ - ولكن عرج بروحه. وعن الحسن كان في المنام رؤيا رآها. وفي أخبار أخرى أنه كان بروحه وجسمه، وأن فراشه - عليه الصلاة والسلام - لم يبرد حتى عاد إليه.
والراجح من مجموع الروايات أن رسول اللّه - ﷺ - ترك فراشه في بيت أم هانىء إلى المسجد فلما كان في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان أسري به وعرج. ثم عاد إلى فراشه قبل أن يبرد.
على أننا لا نرى محلا لذلك الجدل الطويل الذي ثار قديما والذي يثور حديثا حول طبيعة هذه الواقعة المؤكدة في حياة الرسول - ﷺ - والمسافة بين الإسراء والمعراج بالروح أو بالجسم، وبين أن تكون رؤيا في المنام أو رؤية في اليقظة.. المسافة بين هذه الحالات كلها ليست بعيدة ولا تغير من طبيعة هذه الواقعة شيئا وكونها كشفا وتجلية للرسول - ﷺ - عن أمكنة بعيدة وعوالم بعيدة في لحظة خاطفة قصيرة..
والذين يدركون شيئا من طبيعة القدرة الإلهية ومن طبيعة النبوة لا يستغربون في الواقعة شيئا. فأمام القدرة الإلهية تتساوى جميع الأعمال التي تبدو في نظر الإنسان وبالقياس إلى قدرته وإلى تصوره متفاوتة السهولة والصعوبة، حسب ما اعتاده وما رآه. والمعتاد المرئي في عالم البشر ليس هو الحكم في تقدير الأمور بالقياس إلى قدرة اللّه.
أما طبيعة النبوة فهي اتصال بالملأ الأعلى - على غير قياس أو عادة لبقية البشر - وهذه التجلية لمكان بعيد، أو عالم بعيد والوصول إليه بوسيلة معلومة أو مجهولة ليست أغرب من الاتصال بالملأ الأعلى