الباب الأول
تمهيد
المبحث الأول
معرفة المكي والمدني
مقدمة :
نزل القرآن على النبي - ﷺ - مفرقاً في خلال ثلاث وعشرين سنة، قضى رسول الله أكثرها بمكة، قال الله تعالى: ﴿وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً﴾[الاسراء: ١٠٦]
ولذلك قسَّم العلماء رحمهم الله تعالى القرآن إلى قسمين: مكي ومدني:
- فالمكي: ما نَزَلَ على النبي - ﷺ - قبل هجرته إلى المدينة
- والمدني: ما نزل على النبي - ﷺ - بعد هجرته إلى المدينة
وعلى هذا فقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً﴾[المائدة: الآية٣] من القسم المدني وإن كانت قد نزلت على النبي - ﷺ - في حجة الوداع بعرفة، ففي "صحيح البخاري"عن عمر رضي الله عنه أنه قال: قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي - ﷺ -، نزلت وهو قائم بعرفة يوم جمعة. (١)
علم المكي والمدني
لبث النبي - ﷺ - قبل البعثة عمرا ما كان يدري فيه ما الكتاب وما الإيمان، ثم اختاره الله لتبليغ رسالته، فأوحى إليه روحا من أمره، وجعل مبعثه كمبعث الرسل الذين خلوا من قبله في سن الأربعين ليكون أنضج فكرا، وأصدق عزمًا، وأمضى إرادة، وأقوى بأسا، وأوسع تجربة، وأثبت جنانا.
ولقد بادر بعض المفسرين إلى القرآن نفسه يستخرجون من نصوصه عمر النبي قبيل البعثة، فلما لم يظفروا إلا بقوله تعالى على لسان نبيه: ﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ﴾١ انطلقوا به يجزمون بأن لفظة "العمر" ترادف سن الأربعين على وجه اليقين٢. وكم خلطوا بمثل هذا التفسير العجول بين مدلول اللغة وواقع التاريخ!.
إن لفظة "العمر" لا تعين وحدها شيئا مما قطعوا به، وليس في مدلولها اللغوي إيماءة إلى مفهوم عددي صريح، ولكنها -بوحي من سياق التركيب في الجملة أو من سياق الواقع في التاريخ -قد ترمي إلى فكرة