يوجه الخطاب به إلى المشركين في المدينة في أول مدة حلول النبي - ﷺ - بها، فإن قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ يناسب أنه نزل بالمدينة حيث صد المشركون النبي والمؤمنين عن البقاء معهم بمكة. وكذلك قوله: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير ٌالَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ فإنه صريح في أنه نزل في شان الهجرة.
روى الترمذي بسنده عن ابن عباس قال: لما أخرج النبي من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم ليهلكن فأنزل الله ﴿أذن أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير ٌالَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾، وكذلك قوله: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً﴾ ففيه ذكر الهجرة وذكر من يقتل من المهاجرين وذلك مؤذن بجهاد متوقع كما سيجيء هنالك.
وأحسب أنه لم تتعين طائفة منها متوالية نزلت بمكة ونزل ما بعدها بالمدينة بل نزلت آياتها متفرقة. ولعل ترتيبها كان بتوقيف من النبي - ﷺ - ومثل ذلك كثير.
وقد قيل في قوله تعالى: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ﴾ إنه نزل في وقعة بدر، لما في الصحيح عن علي وأبي ذر: أنها نزلت في مبارزة حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث مع شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر وكان أبو ذر يقسم على ذلك.
ولذلك فأنا أحسب هذه السورة نازلا بعضها آخر مدة مقام النبي - ﷺ - بمكة كما يقتضيه افتتاحها بـ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ فقد تقرر أن ذلك الغالب في أساليب القرآن المكي، وأن بقيتها نزلت في مدة مقام النبي - ﷺ - بالمدينة.
وروى الترمذي وحسنه وصححه عن ابن أبي عمر، عن سفيان عن ابن جدعان، عن الحسن، عن عمران بن حصين أنه لما نزلت على النبي - ﷺ - ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ إلى قوله: ﴿وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾. قال: أنزلت عليه هذه وهو في سفر؟ فقال: "أتدرون..." وساق حديثا طويلا. فاقتضى قوله: أنزلت عليه وهو في سفر؟ أن هذه السورة أنزلت على النبي - ﷺ - بعد الهجرة فإن أسفاره كانت في الغزوات ونحوها بعد الهجرة.
وفي رواية عنه أن ذلك السفر في غزوة بني المصطلق من خزاعة وتلك الغزوة في سنة أربع أو خمس، فالظاهر من قوله "أنزلت وهو في سفر" أن عمران بن حصين لم يسمع الآية إلا يومئذ فظنتها أنزلت يومئذ فإن عمران بن حصين ما أسلم إلا عام خيبر وهو عام سبعة، أو أن أحد رواة الحديث أدرج كلمة أنزلت عليه وهو في سفر في كلام عمران بن حصين ولم يقله عمران. ولذلك لا يوجد هذا اللفظ فيما ما روى الترمذي وحسنه وصححه أيضا عن محمد ابن بشار، عن يحيى بن سعيد عن هشام بن أبي عبد الله عن


الصفحة التالية
Icon