الأقوياء. والعلم الذي يعتز به قارون، ويحسب أنه بسببه وعن طريقه أوتي ذلك المال. ولكن الذين أوتوا العلم الصحيح من قومه لا تستخفهم خزائنه، ولا تستخفهم زينته بل يتطلعون إلى ثواب اللّه، ويعلمون أنه خير وأبقى. ثم تتدخل يد اللّه فتخسف به وبداره الأرض، لا يغني عنه ماله ولا يغني عنه علمه وتتدخل تدخلا مباشرا سافرا كما تدخلت في أمر فرعون، فألقته في اليم هو وجنوده فكان من المغرقين.
لقد بغى فرعون على بني إسرائيل واستطال بجبروت الحكم والسلطان ولقد بغى قارون عليهم واستطال بجبروت العلم والمال. وكانت النهاية واحدة، هذا خسف به وبداره، وذلك أخذه اليم هو وجنوده. ولم تكن هنالك قوة تعارضها من قوى الأرض الظاهرة. إنما تدخلت يد القدرة سافرة فوضعت حدا للبغي والفساد، حينما عجز الناس عن الوقوف للبغي والفساد.
ودلت هذه وتلك على أنه حين يتمحض الشر ويسفر الفساد ويقف الخير عاجزا والصلاح حسيرا ويخشى من الفتنة بالبأس والفتنة بالمال. عندئذ تتدخل يد القدرة سافرة متحدية، بلا ستار من الخلق، ولا سبب من قوى الأرض، لتضع حد للشر والفساد (١).
وبين القصتين يجول السياق مع المشركين جولات يبصرهم فيها بدلالة القصص - في سورة القصص - ويفتح أبصارهم على آيات اللّه المبثوثة في مشاهد الكون تارة، وفي مصارع الغابرين تارة، وفي مشاهد القيامة تارة..
وكلها تؤكد العبر المستفادة من القصص، وتساوقها وتتناسق معها وتؤكد سنة اللّه التي لا تتخلف ولا تتبدل على مدار الزمان. وقد قال المشركون لرسول اللّه - ﷺ - :«إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا». فاعتذروا عن عدم اتباعهم الهدى بخوفهم من تخطف الناس لهم، لو تحولوا عن عقائدهم القديمة التي من أجلها يخضع الناس لهم، ويعظمون البيت الحرام ويدينون للقائمين عليه.
فساق اللّه إليهم في هذه السورة قصة موسى وفرعون، تبين لهم أين يكون الأمن وأين تكون المخافة وتعلمهم أن الأمن إنما يكون في جوار اللّه، ولو فقدت كل أسباب الأمن الظاهرة التي تعارف عليها
إنه حين كان بنو إسرائيل يؤدون ضريبة الذل لفرعون وهو يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم لم تتدخل يد القدرة لإدارة المعركة. فهم لم يكونوا يؤدون هذه الضريبة إلا ذلا واستكانة وخوفا. فأما حين استعلن الإيمان في قلوب الذين آمنوا بموسى واستعدوا لاحتمال التعذيب، وهم مرفوعو الرؤوس يجهرون بكلمة الإيمان في وجه فرعون دون تلجلج، ودون تحرج، ودون اتقاء التعذيب. فأما عند ذلك فقد تدخلت يد القدرة لإدارة المعركة، وإعلان النصر الذي ثم قبل ذلك في الأرواح والقلوب».
والذي قلته هنا أصح، بشهادة سياق القصة في هذه السورة. وإن كان لما قلت في سورة طه مكانه بتغيير في العبارة. فإن يد القدرة تدخلت منذ أول الأمر لإدارة المعركة. ولكن النصر النهائي لم يتم تمامه إلا بعد استعلان الإيمان في القلوب الذين آمنوا بموسى بعد رسالته، وجهروا بكلمة الحق في وجه الطغيان العاتي المتجبر.