الأرض وحدها إنما هي مرتبطة كذلك بفطرة هذا الكون ونواميسه الكبرى، وفطرة النفس البشرية وأطوارها، وماضي هذه البشرية ومستقبلها. لا على هذه الأرض وحدها، ولكن كذلك في العالم الآخر الوثيق الصلة بها والارتباط.
وكذلك يرتبط قلب المسلم بتلك الآفاق والآماد ويتكيف على ضوئها شعوره وتصوره للحياة والقيم ويتطلع إلى السماء والآخرة ويتلفت حواليه على العجائب والأسرار، وخلفه وقدامه على الحوادث والمصائر.
ويدرك موقفه هو وموقف أمته في ذلك الخضم الهائل ويعرف قيمته هو وقيمة عقيدته في حساب الناس وحساب اللّه، فيؤدي حينئذ دوره على بصيرة، وينهض بتكاليفه في ثقة وطمأنينة واهتمام.
ويمضي سياق السورة في عرض تلك الارتباطات، وتحقيق دلالاتها في نظام الكون، وتثبيت مدلولاتها في القلوب.. يمضي سياق السورة في شوطين مترابطين :
في الشوط الأول يربط بين نصر المؤمنين والحق الذي تقوم عليه السماوات والأرض وما بينهما، ويرتبط به أمر الدنيا والآخرة. ويوجه قلوبهم إلى سنة اللّه فيمن مضى قبلهم من القرون. ويقيس عليها قضية البعث والإعادة. ومن ثم يعرض عليهم مشهدا من مشاهد القيامة وما يجري فيه للمؤمنين والكافرين. ثم يعود من هذه الجولة إلى مشاهد الكون، وآيات اللّه المبثوثة في ثناياه ودلالة تلك المشاهد وإيحائها للقلوب. ويضرب لهم من أنفسهم ومما ملكت أيمانهم مثلا يكشف عن سخافة فكرة الشرك، وقيامها على الأهواء التي لا تستند إلى حق أو علم.. وينهي هذا الشوط بتوجيه الرسول - ﷺ - إلى اتباع طريق الحق الواحد الثابت الواضح. طريق الفطرة التي فطر الناس عليها والتي لا تتبدل ولا تدور مع الهوى ولا يتفرق متبعوها فرقا وشيعا، كما تفرق الذين اتبعوا الهوى.
وفي الشوط الثاني يكشف عما في طبيعة الناس من تقلب لا يصلح أن تقام عليه الحياة. ما لم يرتبطوا بمعيار ثابت لا يدور مع الأهواء، ويصور حالهم في الرحمة والضر، وعند بسط الرزق وقبضه. ويستطرد بهذه المناسبة إلى وسائل إنفاق هذا الرزق وتنميته. ويعود إلى قضية الشرك والشركاء فيعرضها من هذه الزاوية فإذا هم لا يرزقون ولا يميتون ولا يحيون. ويربط بين ظهور الفساد في البر والبحر وعمل الناس وكسبهم ويوجههم إلى السير في الأرض، والنظر في عواقب المشركين من قبل. ومن ثم يوجه الرسول - ﷺ - إلى الاستقامة على دين الفطرة، من قبل أن يأتي اليوم الذي يجزى فيه كل بما كسبت يداه. ويعود بهم بعد ذلك إلى آيات اللّه في مشاهد الكون كما عاد بهم في الشوط الأول. ويعقب عليها بأن الهدى هدى اللّه وأن الرسول - ﷺ - لا يملك إلا البلاغ، فهو لا يهدي العمي ولا يسمع الصم. ثم يطوف بهم في جولة جديدة في ذات أنفسهم ويذكرهم بأطوار نشأتهم من بدئها إلى منتهاها، منذ الطفولة الواهنة الضعيفة إلى