في رواية شاذة على أنه فعل ماض من الصيد، وقرأ الحسن وغيره بكسر الصاد على أنه أمر من المصاداة وهي المعارضة أي عارض بما أنزلناه إليك الخلائق وجادلهم به فإنك تغلبهم لأن الصدق سيف الله في أرضه، ما وضعه على شيء إلا قطعه، وقد انبسط هذا الصدق الذي أشار إليه الصاد على كل صدق في الوجود فاستمال كل من فيه نوع من الصدق، ولهذا قال في السورة التي بعدها ) والذي جاء بالصدق وصدق به ) [ الزمر : ٣٣ ] فذكر هؤلاء الأنبياء عليهم السلام شاهد وجودي على ما هو معنى الصاد عند العلماء الربانيين من أنه مطابقة ما بين الخلق والأمر، وتسمى سورة داود عليه السلام - كما قاله ابن الجوزي رحمه الله - وحاله ( - ﷺ - ) أدل أحوال من فيها من الأنبياء على هذا المقصود، لما كان فيه من الضعف أولا والملك آخرا (١)
هذه السورة مكية، تعالج من موضوعات السور المكية قضية التوحيد، وقضية الوحي إلى محمد - ﷺ - وقضية الحساب في الآخرة. وتعريض هذه القضايا الثلاث في مطلعها الذي يؤلف الشوط الأول منها. وهو الآيات الكريمة التي فوق هذا الكلام. وهي تمثل الدهش والاستغراب والمفاجأة التي تلقى بها كبار المشركين في مكة دعوة النبي - ﷺ - لهم إلى توحيد اللّه وإخبارهم بقصة الوحي واختياره رسولا من عند اللّه :«وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ. وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ، أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً : إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ. وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ : أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ. ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ. أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا؟».. كما تمثل استهزاءهم واستنكارهم لما أوعدهم به جزاء تكذيبهم من عذاب :«وَقالُوا : رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ»..
لقد استكثروا أن يختار اللّه - سبحانه - رجلا منهم، لينزل عليه الذكر من بينهم. وأن يكون هذا الرجل هو محمد بن عبد اللّه. الذي لم تسبق له رياسة فيهم ولا إمارة! ومن ثم ساءلهم اللّه في مطلع السورة تعقيبا على استكثارهم هذا واستنكارهم وقولهم :«أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا» ساءلهم :«أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ؟ أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما؟ فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ».. ليقول لهم : إن رحمة اللّه لا يمسكها شيء إذا أراد اللّه أن يفتحها على من يشاء. وإنه ليس للبشر شيء من ملك السماوات والأرض، وإنما يفتح اللّه من رزقه ورحمته على من يشاء. وإنه يختار من عباده من يعلم استحقاقهم للخير، وينعم عليهم بشتى الإنعامات بلا قيد ولا حد، ولا حساب.. وفي هذا السياق

(١) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (٦ / ٣٥٦)


الصفحة التالية
Icon