وقال الآخرون: قالت اليهود بعد تحويل القبلة: لا يخلو محمد من أمرين: إما أن يكون كان على حق فقد رجع عنه، وإما أن يكون على باطل فما كان ينبغي أن يكون عليه. فأنزل الله تعالى (وَلِلّهِ المَشرِقُ وَالمَغرِب) الآية.
ثم نسخت بقوله تعالى: (وَحَيثُما كُنتُم فَوَلّوا وَجوهَكُم شَطرَهُ) البقرة.
واختلفوا: هل يعلم في أي صلاة وفي أي وقت؟ فقال الأكثرون: حولت يوم الإثنين، النصف من رجب، على رأس سبعة عشر شهرا، في وقت الظهر.
وقال قتادة: حولت يوم الثلاثاء، النصف من شعبان، على راس ثمانية عشر شهرا من مقدمه المدينة.
وكان رسول الله ﷺ إذا قام إلى الصلاة يحول وجهه ويومىء إلى السماء بطرفه، ويقول: (يا جبريل، إلى متى أصلي إلى قبلة اليهود؟ يقول جبريل: إنما أنا عبد مأمور، فاسأل ربك).
قال: فبينما هو على ذلك إذ نزل عليه جبريل عليه السلام فقال: اقرأ يا محمد: (قَد نَرى تَقَلُّبَ وَجهِكَ في السَماءِ) تنتظر الأمر، فحذف هذا من الكلام لعلم السامع به، ونزل: (فَوَلِّ وَجهَكَ شَطرَ المِسجِدِ الحَرامِ) أي نحوه وتلقاءه. والشطر في كلام العرب النصف، وهذه ههنا لغة الأنصار، فصارت هذه ناسخة لقوله: (فَأَينَما تُوَلّوا فَثَمَّ وَجهُ اللَه).
وفي رواية أخرى رواها إبراهيم الحراني: قال: حولت القبلة في جمادي الآخر.
الآية السادسة: قوله تعالى: (لَنا أَعمالُنا وَلَكُم أَعمالَكُم).
نسخ هذا بآية السيف، على قول الجماعة.
الآية السابعة: قوله تعالى: (إِنَّ الصَفا وَالمَروَةَ مِن شَعائِرِ اللَه) هذا محكم.
والمنسوخ قوله تعالى: (فَمَن حَجَّ البَيتَ أَو اِعتَمَر فَلا جُناحَ عَلَيهِ أَن يَطَّوَفَ بِهِما).
وكان على الصفا صنم يقال له: إساف، وعلى المروة صنم يقال له: نائلة، وكان رجل وامرأة في الجاهلية، فدخلا الكعبة وزنيا فيها، فمسخهم الله تعالى صنمين، فوضعت المشركون الصنم الذي كان رجلا على الصفا، والصنم الذي كانت امرأة على المروة، وعبدوهما من دون الله. فلما أسلمت الأنصار تحرجوا أن يسعوا بينهما، فأنزل الله تعالى: (إِنَّ الصَفا وَالمَروَةَ مِن شَعائِرِ اللَه).
ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: (وَمَن يَرغَبُ عَن مِلَّةِ إِبراهيمَ إِلّا مَن سَفِةَ نَفسَهُ) الآية الثامنة: قوله تعالى: (إِنَّ الَّذينَ يَكتُمونَ ما أَنزَلنا مِنَ البَيِّناتِ وَالهُدى) إلى قوله: (وَيَلعَنُهُم اللاعِنونَ).
نسخها عمن أسلم بالاستثناء، وهو قوله: (إِلّا الَّذينَ تابوا وَأَصلَحوا.).
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: لولا هذه الآية لما حدثتكم بشيء. ويقال: من ورع العالم العامل أن يتكلم، ومن ورع الجاهل العامل أن يسكت.
الآية التاسعة: قوله تعالى: (إِنَّما حُرِّمَت عَلَيكُم المَيتَةُ وَالدَمُ وَلَحمُ الخَنزيرِ..).
نسخ بالسنة بعض الميتة وبعض الدم، بقوله عليه السلام: (أحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطحال).
وقال تعالى: (وَما أُهِلًّ بِهِ لِغَيرِ اللَه). ثم رخص للمضطر والجائع غير الباغي والعادي، وقال: (فَمَنِ اِضطَرَّ غَيرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثمَ عَلَيه).
الآية العاشرة: قوله تعالى: (يا أَيُّها الَّذينَ آمَنوا كُتِبَ عَلَيكُم القِصاصُ في القَتلى الحُرُّ بِالحُرِّ وَالعَبدُ بِالعَبد..).
وذلك: أن حيين اقتتلا قبل الإسلام بقليل، وكان لأحدهما على الآخر طول، فلم يقتص أحدهما من الآخر حتى جاء الإسلام، فقال الأكثرون: لا نرضى أن نقتل بالعبد منا إلا الحر منهم، وبالمرأة منا إلا الرجل منهم. فسوى الله بينهما في أحكام القصاص، فنزل قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيكُمُ القِصاصُ في القَتلى الحُرُّ بِالحُرُّ وَالعَبدُ بِالعَبدِ وَالأُنثى بِالأُنثى). إلى ههنا موضع النسخ وباقي الآية محكم.
وأجمع المفسرون على نسخ ما فيها من المنسوخ، واختلفوا في ناسخها: فقال العراقيون وجماعة: ناسخها الآية التي في المائدة، وهي قوله تعالى: (وَكَتَبنا عَلَيهِم فيها أَنَّ النَفسَ بِالنَفسِ) هذه الآية.
فإن قال قائل: هذا كتب على بني إسرائيل، فكيف يلزمنا حكمه؟ فالجواب عن ذلك: أن آخر الآية ألزمنا، وهو قوله عز وجل: (وَمَن لَم يَحكُم بِما أَنزَلَ اللَهُ فَأولئِكَ هُمُ الظالِمونَ).