وكان الرجل في بدء الإسلام: إن شاء صام، وإن شاء أفطر وأطعم مكان يومه مسكينا، حتى قال الله تعالى: (فَمَن تَطَوَّعَ خَيراً فَهُوَ خَيرٌ لَه) فاطعم بمكان يومه مسكينين كان أفضل - والإطعام مد من طعام على قول أهل الحجاز، وعلى قول أهل العراق: نصف صاع - حتى أنزل الله الآية التي تليها، وهي قوله تعالى: (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَهرَ فَليَصُمهُ). وهذا الظاهر يحتاج إلى كشف، ومعناه - والله أعلم - من شهد منكم الشهر حاضرا عاقلا بالغا صحيحا فليصمه.
فصار هذا ناسخا لقوله تعالى: (وَعَلى الَّذينَ يَطيقونَه).
والآية الرابعة عشر: قوله تعالى: (وَقاتِلوا في سَبيلِ اللَهِ الَّذينَ يُقاتِلونَكُم).
هذه الآية جميعها محكم، إلا قوله: (وَلا تَعتَدوا) أي فتقاتلوا من لا يقاتلكم. كان هذا في الابتداء، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: (وَقاتِلوا المُشرِكينَ كافَّةً كَما يُقاتِلونَكُم كافَّةً):. وبقوله عز اسمه: (اِقتُلوا المُشرِكينَ حَيثُ وَجَدتُموهُم).
الآية الخامسة عشر: قوله تعالى: (وَلا تُقاتِلوهُم عِندَ المَسجِدِ الحَرامِ حَتّى يُقاتِلوكُم فيه).
فصارت هذه الآية منسوخة بآية السيف.
الآية السادسة عشر: قوله تعالى: (فَإِنِ اِنتَهوا فَإِنَّ اللَهَ غَفورٌ رَحيمٌ).
هذا من الأخبار التي معناها وتأويلها الأمر والنهي، وتقديريه: فاعفوا عنهم واصفحوا لهم، صار هذا العفو والصفح منسوخا بآية السيف.
الآية السابعة عشر: قوله تعالى: (وَلا تَحلِقوا رُؤوسَكُم حَتّى يَبلُغَ الهَديُ مَحَلَّهُ).
نزلت في كعب بن عجرة الأنصاري، وذلك أنه قال: لما نزلنا مع النبي ﷺ الحديبية مر بي النبي ﷺ وأنا أطبخ قدرا لي، والقمل يتهافت على وجهي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا كعب بن عجرة، لعلك يؤذيك هوام رأسك). فنزلت: (فَمَن كانَ مَريضاً أَو بِهِ أَذىً مِن رَأسِهِ) ففي الكلام محذوف، وتقديره: فحلق فعليه ما في قوله عز وجل: (ففِديَةٌ مِن صِيامٍ أَو صَدَقَةٍ أَو نُسُكٍ).
الآية الثامنة عشر: قوله تعالى: (يَسأَلونَكَ ماذا يُنفِقونُ قُل ما أَنفَقتُم مِن خَيرٍ فَلِلوالِدَينِ وَالأَقرَبينَ).
كان هذا قبل أن تفرض الزكاة، فلما فرضت الزكاة نسخ الله بها كل صدقة في القرآن. فقال تعالى: (إِنَّما الصَدقاتُ لِلفُقَراءِ وَالمساكينِ).
قال أبو جعفر يزيد بن القعقاع: نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن، ونسخ شهر رمضان كل صيام، ونسخ ذباحة الأضحى كل ذبح.
فصارت هذه الآية ناسخة لما قبلها.
الآية التاسعة عشر: قوله تعالى: (يَسأَلونَكَ عَنِ الشَهرِ الحَرامِ قِتالٍ فيه).
وذلك: أنهم كانوا يمتنعون عن القتال في الجاهلية في الأشهر الحرم، حتى خرج عبد الله بن جحش، وأمره أن يخرج إلى بطن نخلة، ولقي فيها عمرو بن الحضرمي، فقاتله وقتله، فعير المشركون المسلمين بقتل هذا الرجل لعمرو بن الحضرمي، وكان قتله في آخر يوم من جمادى الآخرة، وكان ذلك ابتداء الحرب، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ثم صارت منسوخة بقوله: (اِقتُلوا المُشرِكينَ حَيثُ وَجَدتُّموهُم) التوبة: يعني في الحل والحرام.
الآية والعشرون: قوله تعالى: (يَسأَلونَكَ عَنِ الخَمرِ وَالمَيسِرِ).
والخمر: كل ما خامر العقل وغطاه. والميسر: القمار كله.
وذلك: أن الله تعالى حرم الخمر في مواطن خمسة: أولهن قوله تعالى: (وَمَن ثَمَراتِ النَخيلِ وَالأَعنابِ تَتَّخِذونَ مِنهُ سَكَراً وَرِزقاً حَسَناً) معناها: وتتركون رزقا حسنا، وهي تعبير لهم، وظاهرها التعدد للنعم، وليس كذلك.
فلما نزلت هذه الآية امتنع عن شربها قوم، وبقي آخرون، حتى قدم رسول الله ﷺ المدينة، فخرج حمزة بن عبد المطلب وقد شرب الخمر، فلقيه رجل من الأنصار وبيده ناهج له، والأنصاري يتمثل ببيتين لكعب بن مالك في مدح قومه، وهما: جمعنا مع الإيواء نصرا وهجرة.
اعلم أن الله تعالى ذكره (لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليهم) كما روي عنه صلى الله عليه وسلم.