والجواب عن الآية: أنهم كانوا يبتاعونها من الشام بثمن يسير، ويبيعونها في الحجاز بالغالي، وكانت المنافع هي التي من الأرباح. وكذا قال تبارك وتعالى: (قُل فيهِما إِثمٌ كَبيرٌ) فانتهى عن شربها قوم، وبقي قوم، حتى دعا محمد بن عبد الله بن عوف الزهري قوما، فأطعمهم وسقاهم الخمر حتى سكروا، فلما حضرت وقت صلاة المغرب، فقدموا رجلا منهم يصلي بهم، وكان أقرأهم قرآنا، يقال له أبو بكر بن أبي جعفرة، حليف الأنصار، فقرأ فاتحة الكتاب، و(قُل يا أَيُّها الكافِرون) فمن أجل سكره خلط، فقال في موضع لا أعبد أعبد وفي أعبد لا أعبد، فبلغ ذلك رسول الله ي فشق عليه، فأنزل الله تعالى: (يا أَيُّها الَّذينَ آمَنوا لا تَقرَبوا الصَلوةَ وَأَنتُم سُكارى حَتى تَعلَموا ما تَقولون).
فكان الرجل يشرب الخمر بعد صلاة العشاء الأخيرة ثم يرقد، فيقوم عند صلاة الفجر وقد صحا، ثم يشربها إن شاء بعد صلاة الفجر فيصحو منها عند صلاة الظهر، فإذا جاء وقت الظهر لا يشربها البتة حتى يصلي العشاء الأخيرة. حتى دعا سعد بن أبي وقاص الزهري، وقد عمل وليمة له على رأس جزور، فدعا أناسا من المهاجرين والأنصار، وأكلوا وشربوا وافتخروا وعمد رجل من الأنصار فأخذ أحد لحيي الجزور، فضرب به أنف سعد فغرزه، فجاء سعد مستعديا إلى رسول الله ﷺ فأنزل الله تعالى: (يا أَيُّها الَّذينَ آمَنوا إِنَّما الخَمرُ وَالمَيسِرُ وَالأَنصابُ وَالأَزلامُ رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَيطانِ فَاِجتَنِبون) أي فاتركوه.
وهذه الآية دلت على تحريم الخمر في القرآن، لأن الله تعالى قرنها مع المحرمات.
وقال الآخرون: موضع تحريمه عند قوله تعالى: (فَهَل أَنتُم مُنتَهونَ) المائدة:. لأن المعنى: انتهوا، كما قال تعالى في سورة الفرقان: (أَتَصبِرونَ) والمعنى: اصبروا، وكما قال الله تعالى في سورة الشعراء في قوم فرعون: (أَلا تَتَّقونَ) والمعنى: اتقوا.
فقالوا: انتهينا يا رسول الله.
وأكد تحريمها بقوله: (قُل إِنَّما حَرَّمَ رَبّي الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وَما بَطَن وَالإِثمَ وَالبَغيَ بِغَيرِ الحَقٍّ): والإثم الخمر، قال الشاعر:
تَبَوَّأتُ الإِثمَ حَتّى ضَلَّ عَقلي | كَذلِكَ الإِثمُ يَلعَبُ بِالعُقولِ |
تَشرَبُ الإِثمَ بِالكُؤوسِ جِهاراً | وَتَرى المِثلَ بَيتاً مُستَعاراً |
فهذا تحريم الخمر وانتقاله في مواطنه.
الآية الحادية والعشرون: قوله تعالى: (يَسئَلونُك ماذا يُنفِقونَ قُلِ العَفوَ).
ومعنى العفو: الفضل من المال.
وذلك: أن الله تعالى فرض عليهم قبل الزكاة: إذا كان للإنسان مال يمسك منه درهم أو قيمته من الذهب، ويتصدق بما بقي.
وقد قيل: يمسك ثلث ماله.
وقال الآخرون: إن كان من أهل زراعة الأرض وعمارتها أمرهم أن يمسكوا ما يقيتهم حولا، ويتصدقوا بما بقي. وإن كان ممن يلي ببدنه أمسك ما يقوته يومه، ويتصدق بما بقي.
فشق ذلك عليهم، فأمر الله تعالى بالزكاة، ففرض في الأموال التي هي الذهب والفضة - إذا حال عليها الحول - ربع عشر، إذا بلغ من الذهب عشرون دينارا نصف دينار، ومن الورق مائتي درهم فيكون من كل مائتي درهم خمسة دراهم، وأسقط عنهم الفضل في ذلك.
فصارت آية الزكاة، وهي قوله تعالى: (خُذ مِن أَموالهِم صَدَقَةً تُطَهِّرُهُم وَتُرَكّيهِم بِها).
وبينت السنة أعيان الزكاة، من الذهب والورق والزرع والماشية.
فصارت هذه الآية ناسخة لما قبلها.
الآية الثانية والعشرون: قوله تعالى: (وَلا تَنكِحوا المُشرِكاتِ حَتّى يُؤمِنَّ).
فنسخ الله تعالى بعض أحكامه من اليهوديات والنصرانيات بالآية التي في سورة المائدة، وهي قوله تعالى: (اليَومَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَيِّباتُ وَطعامُ الَّذينَ أُوتوا الكِتاب حِلٌّ لَكُم وَطَعامُكُم حِلٌّ لَهُم) والطعام الذبائح فقط (وَالمُحصَناتُ مِن المُؤمِناتِ).
وهي من عموم الآية، لأن الشرك يعم الكتابيات والوثنيات، لأن المفسرين اجتمعوا على نسخ الآية التي في سورة المائدة، غير عبد الله بن عمر رضي الله عنه، فإنه يقول: الآية التي في سورة البقرة محكمة، والآية التي في سورة المائدة منسوخة. وما تابعه على هذا القول أحد.