أحكام القرآن (الجصاص)، ج ١، ص : ٣٩٩

باب من يبدأ به في النفقة عليه


قال اللّه تعالى [يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ] الآية فالسؤال واقع عن مقدار ما ينفق والجواب صدر عن القليل والكثير مع بيان من تصرف إليه النفقة فقال تعالى [قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ] فذاك يتناول القليل والكثير لشمول اسم الخير لجميع الإنفاق الذي يطلب به وجه اللّه وبين فيمن تصرف إليه بقوله [فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ] ومن ذكر في الآية وأن هؤلاء أولى من غيرهم ممن ليس هو في منزلتهم بالقرب والفقر وقد بين في آية أخرى ما يجب عليه فيه النفقة وهو قوله [وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ] فروى عن ابن عباس قال ما يفضل عن أهلك وقال قتادة العفو الفضل فأخبر في هذه الآية أن النفقة فيما يفضل عن نفسه وأهله وعياله وعلى هذا المعنى
قال صلّى اللّه عليه وسلم (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وفي خبر آخر- خير الصدقة ما أبقت غنى وابدأ بمن تعول)
فهذا موافق لقوله [وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ] وقد روى عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أخبار في التبدئة بالأقرب فالأقرب في النفقة فمنها
حديث ابن مسعود عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول أمك وأبوك وأختك وأخوك وأدناك فأدناك
وروى مثله ثعلبة بن زهدم وطارق عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم وقد دل ذلك على معنى الآية في قوله [قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ] وإنما المراد بها تقديم الأقرب فالأقرب في الإنفاق وروى عن الحسن البصري أن الآية في الزكاة والتطوع جميعا وأنها ثابتة الحكم غير منسوخة عليه وقال السدى هي منسوخة بفرض الزكاة قال أبو بكر هي ثابتة الحكم عامة في الفرض والتطوع أما الفرض فلم يرد به الوالدين ولا الولد وإن سلفوا لقيام الدلالة عليه وأما التطوع فهي عامة في الجميع ومتى أمكننا استعمالهما مع فرض الزكاة فغير جائز الحكم بنسخها وكذلك حكم سائر الآيات متى أمكن الجمع بين جميعها في أحكامها من غير إثبات نسخ لها لم يجز لنا الحكم بنسخ شيء منها وليس يمتنع أن يكون المراد به النفقة على الوالدين والأقربين إذا كانوا محتاجين وذلك إذا كان الرجل غنيا لأن قوله تعالى [قُلِ الْعَفْوَ] قد دل على أن النفقة إنما تجب عليه فيما يفضل فإذا كان هو وعياله محتاجين لا يفضل عنهم شيء فليس عليه نفقة وقد دلت الآية على معان منها أن القليل والكثير من النفقة يستحق به الثواب على اللّه تعالى إذا أراد بها وجه اللّه وينتظم


الصفحة التالية
Icon