أحكام القرآن (الجصاص)، ج ٢، ص : ٣٢٢
الحال وقيل كنتم خير أمة في اللوح المحفوظ وقيل كنتم منذ أنتم ليدل أنهم كذلك من أول أمرهم وفي هذه الآية دلالة على صحة إجماع الأمة من وجوه أحدها كنتم خير أمة ولا يستحقون من اللّه صفة مدح إلا وهم قائمون بحق اللّه تعالى غير ضالين والثاني إخباره بأنهم يأمرون بالمعروف فيما أمروا به فهو أمر اللّه تعالى لأن المعروف هو أمر اللّه والثالث أنهم ينكرون المنكر والمنكر هو ما نهى اللّه عنه ولا يستحقون هذه الصفة إلا وهم للّه رضى فثبت بذلك أن ما أنكرته الأمة فهو منكر وما أمرت به فهو معروف وهو حكم اللّه تعالى وفي ذلك ما يمنع وقوع إجماعهم على ضلال ويوجب أن ما يحصل عليه إجماعهم هم حكم اللّه تعالى قوله تعالى لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً الآية فيه الدلالة على صحة نبوة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لأنه أخبر عن اليهود الذين كانوا أعداء المؤمنين وهم حوالى المدينة بنو النضير وقريظة وبنو قينقاع ويهود خيبر فأخبر اللّه تعالى أنهم لا يضرونهم إلا أذى من جهة القول وأنهم متى قاتلوهم ولوا الأدبار فكان كما أخبر وذلك من علم الغيب قوله تعالى ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وهو يعنى به اليهود المتقدم ذكرهم فيه الدلالة على صحة نبوة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لأن هؤلاء اليهود صاروا كذلك من الذلة والمسكنة إلا أن يجعل المسلمون لهم عهد اللّه وذمته لأن الحبل في هذا الموضع هو العهد والأمان قوله تعالى لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ قال ابن عباس وقتادة وابن جريج لما أسلم عبد اللّه بن سلام وجماعة معه قالت اليهود ما آمن بمحمد إلا شرارنا فأنزل اللّه تعالى هذه الآية قال الحسن قوله قائِمَةٌ يعنى عادلة وقال ابن عباس وقتادة والربيع بن أنس
ثابتة على أمر اللّه تعالى وقال السدى قائمة بطاعة اللّه تعالى وقوله وَهُمْ يَسْجُدُونَ قيل فيه أنه السجود المعروف في الصلاة وقال بعضهم معناه يصلون لأن القراءة لا تكون في السجود ولا في الركوع فجعلوا الواو حالا وهو قول الفراء وقال الأولون الواو هاهنا للعطف كأنه قال يتلون آيات اللّه آناء الليل وهم مع ذلك يسجدون قوله تعالى يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ صفة لهؤلاء الذين آمنوا من أهل الكتاب لأنهم آمنوا باللّه ورسوله ودعوا الناس إلى تصديق النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والإنكار على من خالفه فكانوا ممن قال اللّه تعالى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ في الآية المتقدمة وقد بينا ما دل عليه القرآن من وجوب