أحكام القرآن (الجصاص)، ج ٥، ص : ٢٢
وعقوده بالجواز أولى إذ كانت مما لا تسقطه الشبهة وقد بينا ذلك في سورة البقرة عند قوله تعالى فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً
قوله تعالى إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ قيل فيه وجهان أحدهما أنهم إخوانهم باتباعهم آثارهم وجريهم على سنتهم والثاني إنهم يقرنون بالشياطين في النار
قوله تعالى وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها الآية قيل فيه وجهان أحدهما أنه علمنا ما يفعله عند مسألة السائلين لنا من المسلمين وابن السبيل وذي القربى مع عوز ما يعطى وقلة ذات أيدينا فقال إن أعرضت عنهم لأنك لا تجد ما تعطيهم وكنت منتظر الرزق ورحمة ترجوها من اللّه لتعطيهم منه فقل لهم عند ذلك قولا حسنا لينا سهلا فتقول لهم يرزق اللّه وقد روى ذلك عن الحسن ومجاهد وإبراهيم وغيرهم
قوله تعالى وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ يعنى واللّه أعلم لا تبخل بالمنع من حقوقهم الواجبة لهم وهذا مجاز ومراده ترك الإنفاق فيكون بمنزلة من يده مغلولة إلى عنقه فلا يعطى من ماله شيئا وذلك لأن العرب تصف البخيل بضيق اليد فتقول فلان جعد الكفين إذا كان بخيلا وقصير الباع ويقولون في ضده فلان رحب الذراع وطويل اليدين وقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لنسائه أسرعكن بي لحاقا أطولكن يدا
وإنما أراد كثرة الصدقة فكانت زينب بنت جحش لأنها كانت أكثرهن صدقة وقال الشاعر :
وما إن كان أكثرهم سواما ولكن كان أرحبهم ذراعا
قوله تعالى وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ يعني ولا تخرج جميع ما في يدك مع حاجتك وحاجة عيالك إليه فتقعد ملوما محسورا يعنى ذا حسرة على ما خرج من يدك وهذا الخطاب لغير النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لم يكن يدخر شيئا لعد وكان يجوع حتى يشد الحجر على بطنه وقد كان كثير من فضلاء الصحابة ينفقون في سبيل اللّه جميع أملاكهم فلم يعنفهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لصحة يقينهم وشدة بصائرهم وإنما نهى اللّه تعالى عن الإفراط في الإنفاق وإخراج جميع ما حوته يده من المال من خيف عليه الحسرة على ما خرج عن يده فأما من وثق بموعود اللّه وجزيل ثوابه فيما أنفقه فغير مراد بالآية وقد روى أن رجلا أتى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بمثل بيضة من ذهب فقال يا رسول اللّه أصبت هذه من معدن واللّه ما أملك غيرها فأعرض عنه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فعاد ثانيا فأعرض عنه فعاد ثالثا فأخذها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فرمى