أحكام القرآن (الجصاص)، ج ٥، ص : ٣٢٦
وإنما قال عمر ائذن لي فأضرب عنقه لأنه ظن أنه فعله عن غير تأويل فإن قيل قد أخبر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه إنما منع عمر من قتله لأنه شهد بدرا وقال ما يدريك لعل اللّه قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم
فجعل العلة المانعة من قتله كونه من أهل بدر وقيل له ليس كما ظننت لأن كونه من أهل بدر لا يمنع أن يكون كافرا مستحقا للنار إذا كفر وإنما معناه ما يدريك لعل اللّه قد علم أن أهل بدر وإن أذنبوا لا يموتون إلا على التوبة ومن علم اللّه منه وجود التوبة إذا أمهله فغير جائز أن يأمر بقتله أو يفعل ما يقتطعه به عن التوبة فيجوز أن يكون مراده أن أهل بدر وإن أذنبوا فإن مصيرهم إلى التوبة والإنابة وفي هذه الآية دلالة على أن الخوف على المال والولد لا يبيح التقية في إظهار الكفر وأنه لا يكون بمنزلة الخوف على نفسه لأن اللّه نهى المؤمنين عن مثل ما فعل حاطب مع خوفه على أهله وماله وكذلك قال أصحابنا إنه لو قال لرجل لأقتلن ولدك أو لتكفرن إنه لا يسعه إظهار الكفر ومن الناس من يقول فيمن له على رجل مال فقال لا أقر لك حتى تحط عنى بعضه فحط عنه بعضه أنه لا يصح الحط عنه وجعل خوفه على ذهاب ماله بمنزلة الإكراه على الحط وهو فيما أظن مذهب ابن أبى ليلى وما ذكرناه يدل على صحة قولنا ويدل على أن الخوف على المال والأهل لا يبيح التقية أن اللّه فرض الهجرة على المؤمنين ولم يعذرهم في التخلف لأجل أموالهم وأهلهم فقال قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ الآية وقال قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها وقوله تعالى قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ الآية وقوله وَالَّذِينَ مَعَهُ قيل فيه الأنبياء وقيل الذين آمنوا معه فأمر اللّه الناس بالتأسى بهم في إظهار معاداة الكفار وقطع الموالاة بيننا وبينهم بقوله إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً فهذا حكم قد تعبد المؤمنون به وقوله إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ يعنى في أن لا يتأسوا به في الدعاء للأب الكافر وإنما فعل إبراهيم ذلك لأنه أظهر له الإيمان ووعده إظهاره فأخبر اللّه تعالى أنه منافق فلما تبين له أنه عدو للّه تبرأ منه فأمر اللّه تعالى بالتأسى بإبراهيم في كل أموره إلا في الاستغفار للأب الكافر وقوله تعالى رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا قال قتادة يعنى بإظهارهم علينا فيروا أنهم على حق