المبحث الثاني : تفسير القرآن بغير لغته، أو الترجمة التفسيرية للقرآن
بحث نرى من الواجب علينا أن نعرض له، لما له من تعلق وثيق بموضوع هذا الكتاب، وقبل الخوض فيه الحسن بنا أن نمهد له بعجالة موجوة تكشف عن معنى الترجمة وأقسامها، ثم نتكلم عما يدخل منها تحت التفسير وما لا يدخل، فنقول: الترجمة تُطلق فى اللغة على معنيين:
الأول: نقل الكلام من لغة إلى لغة أخرى بدون بيان لمعنى الأصل المترجَم، وذلك كوضع رديف مكان رديف من لغة واحدة.
الثانى: تفسير الكلام وبيان معناه بلغة أخرى.
قال فى تاج العروس: "والترجمان المفسِّر للسان، وقد ترجمه عنه إذا فسَّر كلامه بلسان آخر. قال الجوهرى: وقيل: نقله من لغة إلى لغة أخرى".
وعلى هذا فالترجمة تنقسم إلى قسمين: ترجمة حرفية، وترجمة معنوية أو تفسيرية.
أما الترجمة الحرفية: فهى نقل الكلام من لغة إلى لغة أخرى، مع مراعاة الموافقة فى النظم والترتيب، والمحافظة على جميع المعانى الأصل المترجَم.
وأما الترجمة التفسيرية: فهى شرح الكلام وبيان معناه بلغة أخرى، بدون مراعاة لنظم الأصل وترتيبه، وبدون المحافظة على جميع معانيه المرادة منه.
وليس من غرضنا فى هذا البحث أن نعرض لما يجوز من نوعى الترجمة بالنسبة للقرآن وما لا يجوز، ولا لمقالات العلماء المتقدمين والمتأخرين، ولكن غرضنا الذى نريد أن نكشف عنه ونوضحه هو: أى نوعى الترجمة داخل تحت التفسير؟ أهو الترجمة الحرفية؟ أم الترجمة التفسيرية؟ أم هما معاً؟ فنقول:
* الترجمة الحرفية للقرآن:
الترجمة الحرفية للقرآن: إما أن تكون ترجمة بالمثل، وإما أن تكون ترجمة بغير المثل، أما الترجمة الحرفية بالمثل: فمعناها أن يُترجَم نظم القرآن بلغة أخرى تحاكيه حذواً بحذو بحيث تحل مفردات الترجمة محل مفرداته، وأسلوبها محل أسلوبه، حتى تتحمل الترجمة ما تحمَّله نظم الأصل من المعانى المقيدة بكيفياتها البلاغية وأحكامها التشريعية، وهذا أمر غير ممكن بالنسبة لكتاب الله العزيز، وذلك لأن القرآن نزل لغرضين أساسيين:
أولهما: كونه آية دالة على صدق النبى ﷺ فيما يُبلِّغه عن ربه، وذلك بكونه معجزاً للبَشر، لا يقدرون على الإتيان بمثله ولو اجتمع الإنس والجن على ذلك.
وثانيهما: هداية الناس لما فيه صلاحهم فى دنياهم وأخراهم.
أما الغرض الأول، وهو كونه آية على صدق النبى ﷺ فلا يمكن تأديته بالترجمة اتفاقاً، فإن القرآن - وإن كان الإعجاز فى جملته لعدة معان كالإخبار بالغيب، واستيفاء تشريع لا يعتريه خلل، وغير ذلك مما عُدَّ من وجوه إعجازه - إنما يدور الإعجاز السارى فى كل آية منه على ما فيه من خواص بلاغية جاءت لمقتضيات معيَّنة، وهذه لا يمكن نقلها إلى اللغات الأخرى اتفاقاً، فإن اللغات الراقية وإن كان لها بلاغة، ولكن لكل لغة خواصها لا يشاركها فيها غيرها من اللغا، وإذن فلو تُرجِم القرآن ترجمة حرفية - وهذا محال - لضاعت خواص القرآن البلاغية، ولنزل من مرتبته المعجزة إلى مرتبة تدخل تحت طوق البشر، ولفات هذا المقصد العظيم الذى نزل القرآن من أجله على محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما الغرض الثانى، وهو كونه هداية للناس إلى ما فيه سعادتهم فى الدارين فذلك باستنباط الأحكام والإرشادات منه، وهذا يرجع بعضه إلى المعانى الأصلية التى يشترك فى تفاهمها وأدائها كل الناس، وتقوى عليها جميع اللغات، وهذا النوع من المعانى يمكن ترجمته واستفادة الأحكام منه، وبعض آخر من الأحكام والإرشادات يُستفاد من المعانى الثانوية، ونجد هذا كثيراً فى استنباط الأئمة المجتهدين، وهذه المعانى الثانوية لازمة للقرآن الكريم وبدونها لا يكون قرآنا. والترجمة الحرفية إن أمكن فيها المحافظة على المعانى الأوَّلية، فغير ممكن أن يحافظ فيها على المعانى الثانوية، ضرورة أنها لازمة للقرآن دون غيره من سائر اللغات.
ومما تقدم يُعلم: أن الترجمة الحرفية للقرآن، لا يمكن أن تقوم مقام الأصل فى تحصيل كل ما يُقصد منه، لما يترتب عليها من ضياع الغرض الأول برمته، وفوات شطر من الغرض الثانى.
وأما الترجمة الحرفية بغير المثل: فمعناها أن يُترجم نظم القرآن حذواً بحذو بقدر طاقة المترجِم وما تسعه لغته، وهذا أمر ممكن، وهو وإن جاز فى كلام البَشر، لا يجوز بالنسبة لكتاب الله العزيز، لأن فيه من فاعله إهداراً لنظم القرآن، وإخلالاً بمعناه، وانتهاكاً لحرمته، فضلاً عن كونه فعلاً لا تدعو إليه ضرورة.
* *