روى ابن جرير وغيره عن ابن مسعود أنه قال: "كان الرجل منا إذا تعلَّم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن"، ومن هذا الأثر يتضح لنا مقدار حرص ابن مسعود على تفهم كتاب الله تعالى والوقوف على معانيه، وعن مسروق قال: "قال عبد الله - يعنى ابن مسعود - : والذى لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم نزلت وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله منى تناله المطايا لأتيته"، وهذا الأثر يدل على إحاطة ابن مسعود بمعانى كتاب الله، وأسباب نزول الآيات، وحرصه على تعرف ما عند غيره من العلم بكتاب الله تعالى ولو لقى عنتاً ومشقة، وقال مسروق: كان عبد الله يقرأ علينا السورة ثم يحدِّثنا فيها ويفسِّرا عامة النهار، وروى أبو نعيم فى الحلية عن أبى البحترى قال: قالوا لعلىِّ: أخبرنا عن ابن مسعود، قال: علم القرآن والسُّنَّة ثم انتهى، وكفى بذلك علماً، وقال عقبة بن عامر: ما أدرى أحداً أعلم منه بما نزل على محمد ابن عبد الله، فقال أبو موسى: إن تقل ذلك، فإنهن كان يسمع حين لا نسمع، ويدخل حين لا ندخل. وصح عن ابن مسعود أنه قال: أخذت من فَىِّ رسول الله ﷺ سبعين سورة، وقال أبو وائل: لما حرق عثمان المصاحف بلغ ذلك عبد الله فقال: لقد علم أصحاب محمد أنى أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم، ولو أنى أعلم أن أحداً أعلم بكتاب الله منى تبلغه الإبل لأتيته، قال أبو وائل: فقمت إلى الحلق أسمع ما يقولون، فما سمعت أحداً من أصحاب محمد ينكر ذلك عليه... وغير هذا كثير من الآثار التى تشهد لمنزلة ابن مسعود العالية فى التفسير، وإذا كان ابن مسعود يعلم هذا من نفسه ويتحدث به، فإن أصحاب رسول الله ﷺ سلم ينكروا عليه ذلك، بل وتحدَّثوا بمكانته فى العلم، ومقدار فهمه لكتاب الله، وعلَّل ذلك أبو موسى الأشعرى رضى الله عنه، بأنه كان يسمع حين لا يتيسر لهم السماع، ويدخل حين لا يُؤذن لهم بالدخول، الأمر الذى جعله أوفر حظاً فى الأخذ عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأعظم نصيباً من الاغتراف من منهل النبوة الفيَّاض، ولئن صح عن أبى الدرداء أنه قال بعد موت ابن مسعود: ما ترك بعده مثله، لهى شهادة منه على مقدار علمه، وسمو مكانته بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالجملة فابن مسعود كما قيل: أعلم الصحابة بكتاب الله تعالى، وأعرفهم بمحكمه ومتشابهه وحلاله وحرامه، وقصصه وأمثاله، وأسباب نزوله، قرأ القرآن فأحلّ حلاله وحرَّم حرامه، فقيه فى الدين، عالِم بالسُّنَّة، بصير بكتاب الله. * *
*الرواية عن ابن مسعود ومبلغها من الصحة:
ابن مسعود أكثر مَن روَى عنه فى التفسير من الصحابة بعد ابن عباس رضى الله عنه، قال السيوطى فى الإتقان: وأما ابن مسعود فقد رُوِى عنه أكثر مما رُوِى عن علىّ، وقد حمل علم ابن مسعود فى التفسير أهل الكوفة نظراً لوجوده بينهم، يجلس إليهم فيأخذون عنه ويروون له، فمن رواته مسروق بن الأجدع الهمدانى، وعلقمة بن قيس النخعى، والأسود بن يزيد، وغيرهم من علماء الكوفة الذين تتلمذوا له ورووا عنه. وسيأتى الكلام على هؤلاء جميعاً - إن شاء الله تعالى - عند الكلام عن التفسير فى عصر التابعين، وقد وردت أسانيد كثيرة تنتهى إلى ابن مسعود، نجدها مبثوثة فى كتب التفسير بالمأثور وكتب الحديث، ومن هذه الروايات ما يمكن الاعتماد عليه والثقة به، ومنها ما يعتريه الضعف فى رجاله، أو الانقطاع فى إسناده، وقد تتبع العلماء النُقَّاد هذه الروايات، كما تتَّبعوا غيراه بالنقد تجريحاً وتعديلاً وهذه هى أشهر الطرق عن ابن مسعود:
أولاً: طريق الأعمش، عن أبى الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود.
وهذه الطريق من أصح الطرق وأسلمها، وقد اعتمد عليها البخارى فى صحيحه.
ثانياً: طريق مجاهد، عن أبى معمر، عن ابن مسعود، وهذه أيضاً طريق صحيحه لا يعتريها الضعف. وقد اعتمد عليها البخارى فى صحيحه أيضاً.
ثالثاً: طريق الأعمش، عن أبى وائل، عن ابن مسعود. وهذه أيضاً طريق صحيحة يُخَرِّج البخارى منها، وكفى بتخريج البخارى شاهداً على صحته وصحة ما سبق.
رابعاً: طريق السدى الكبير، عن مرة الهمدانى، عن ابن مسعود. وهذه الطريق يُخَرِّج منها الحاكم فى مستدركه، ويصحح ما يُخرِّجه. وابن جرير يُخَرِّج منها فى تفسيره كثيراً، وقد علمت فيما مضى قيمة السدى الكبير فى باب الرواية.
خامساً: طريق أبى روق، عن الضحاك، عن ابن مسعود، وابن جرير يُخَرِّج منها فى تفسيره أيضاً. وهذه الطريق غير مرضية، لأن الضحاك لم يلق ابن مسعود فهى طريق منقطعة.
* * *
٣ - علىّ بن أبى طالب
* ترجمته:


الصفحة التالية
Icon