وأما استدلالهم بما روى عن عثمان وابن مسعود وغيرهما من أنهم كانوا إذا تعلَّموا من النبى ﷺ عشر آيات من القرآن لم يجاوزوها حتى يتعلَّموا ما فيها، فهو استدلال لا ينتج المدعى، لأن غاية ما يفيده، أنهم كانوا لا يتجاوزون ما تعلَّموه من القرآن حتى يفهموا المراد منه، وهو أعم من أن يفهموه من النبى ﷺ أو من غيره من إخوانهم الصحابة، أو من تلقاء أنفسهن، حسبما يفتح الله به عليهم من النظر والاجتهاد.
وأما الدليل الثالث، فكل ما يدل عليه: هو أن الصحابة كانوا يفهمون القرآن ويعرفون معانيه، شأن أى كتاب يقرؤه قوم، ولكن لا يلزم منه أن يكونوا قد رجعوا إلى النبى فى كل لفظ منه.
وأما الدليل الرابع، فلا يدل أيضاً، لأن وفاة النبى عليه الصلاة والسلام قبل أن يُبيِّن لهم آية الربا لا تدل على أنه كان يُبيِّن لهم كل معانى القرآن، فلعل هذه الآية كانت مما أشكل على الصحابة، فكان لا بد من الرجوع فيها إلى النبى عليه السلام، شأن غيرها من مشكلات القرآن.
* *
*مناقشة أدلة الفريق الثانى:
وأما استدلال أصحاب الرأى الثانى بحديث عائشة، فهو استدلال باطل، لأن الحديث منكر غريب، لأنه من رواية محمد بن جعفر الزبيرى، وهو مطعون فيه، قال البخارى: "لا يُتابَع فى حديثه"، وقال الحافظ أبو الفتح الأزدى: "منكر الحديث"، وقال فيه ابن جرير الطبرى: "إنه ممن لا يُعرف فى أهل الآثار"، وعلى فرض صحة الحديث فهو محمول - كما قال أبو حيان - على مغيبات القرآن، وتفسيره لمجمله، ونحوه مما لا سبيل إليه إلا بتوقيف من الله. وفى معناه ما قاله ابن جرير وما قاله ابن عطية.
وأما الدليل الثانى، فلا يدل أيضاً على ندرة ما جاء عن النبى عليه الصلاة والسلام فى التفسير، إذ أن دعوة إمكان التفسير بالنسبة لآيات قلائل، وتعذره بالنسبة للكل غير مُسلَّمة، وأما ما قيل من أن النبى ﷺ لم يؤمر بالتنصيص على المراد فى جميع الآيات لأجل أن يتفكر الناس فى آيات القرآن فليس بشيء، إذ أن النبى عليه الصلاة والسلام مأمور بالبيان، وقد يشكل الكثير على أصحابه فيلزمه البيان، ولو فُرِض - أن القرآن أشكل كله على الصحابة ما كان للنبى عليه الصلاة والسلام أن يمتنع عن بيان كل آية منه، بمقتضى أمر الله له فى الآية: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾.
وأما الدليل الثالث، فول سلَّمنا أنه يدل على أن النبى ﷺ لم يُفسِّر كل معانى القرآن. فلا نُسلِّم أنه يدل على أنه فسَّر النادر منه كما هو المدّعى.
* *
*اختيارنا فى المسألة:
والرأى الذى تميل إليه النفس - بعد أن اتضح لنا مغالاة كل فريق فى دعواه وعدم صلاحية الأدلة لإثبات المُدَّعى - هو أن نتوسط بين الرأيين فنقول: إن الرسول ﷺ بيَّن الكثير من معانى القرآن لأصحابه، كما تشهد بذلك كتب الصحاح، ولم يُبيِّن كل معانى القرآن، لأن من القرآن ما استأثر الله تعالى بعلمه، ومنه ما يعلمه العلماء، ومنه ما تعلمه العرب من لغاتها، ومنه ما لا يعُذر أحد فى جهالته كما صرّح بذلك ابن عباس فيما رواه عنه ابن جرير، قال: "التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يُعذر أحد بجهالته، وتفسير تعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله".
وبدهى أن رسول الله ﷺ لم يفسِّر لهم ما يرجع فهمه إلى معرفة كلام العرب، لأن القرآن نزل بلغتهم، ولم يفسِّر لهم ما تتبادر الأفهام إلى معرفته وهو الذى لا يُعرفه أحد بجهله، لأنه لا يخفى على أحد، ولم يفسِّر لهم ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة، وحقيقة الروح، وغير ذلك من كل ما يجرى مجرى الغيوب التى لم يُطلع الله عليها نبيه، وإنما فسَّر لهم رسول الله ﷺ بعض المغيبات التى أخفاها الله عنهم وأطلعه عليها وأمره ببيانها لهم، وفسَّر لهم أيضاً كثيراً مما يندرج تحت القسم الثالث، وهو ما يعلمه العلماء يرجع إلى اجتهادهم، كبيان المجمل، وتخصيص العام، وتوضيح المشكل، وما إلى ذلك من كل ما خفى معناه والتبس المراد به.
هذا.. وإنَّ مما يؤيد أن النبى عليه الصلاة والسلام لم يُفسِّر كل معانى القرآن، أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وقع بينهم الاختلاف فى تأويل بعض الآيات، ولو كان عندهم فيه نص عن رسول الله ﷺ ما وقع هذا الاختلاف، أو لارتفع بعد الوقوف على النص.
بقى بعد هذا أن نجيب عن الشق الثانى من السؤال، وهو: على أى وجه كان بيان رسول الله ﷺ للقرآن؟ فنقول:
إنَّ الناظر فى القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية الشريفة يجد فيهما ما يدل على أن رسول الله ﷺ وظيفته البيان لكتاب الله، أو بعبارة أخرى، ما يدل على أن مركز السُّنَّة النبوية من القرآن، مركز المبيِّن من المبيَّن.