ثم بيّن لنا هدفه الذى يرمى إليه من وراء هذا التفسير، وهو أنه أراد أن يُفسِّر آيات القرآن ويقرر معانيها على وجه منيف، وبيان لطيف، وطور رشيق، وطرز أنيق، بطريق الإيجاز والاختصار، مع ذكر لب المقصود من الآيات والأخبار، بحيث يوضح غوامض أسرارها، ويكشف عن خبايا أستارها، ويتبين طريق الوصول إلى ذخائر كنوزها، ويرفع النقاب عن وجوه رموزها، من غير تطويل ممل، ولا اختصار زائد مخل.
ثم بيَّن لنا منهجه الذى سلكه فى تأليفه لهذا التفسير، وهو يتلخص فيما يأتى: ١ - يختصر الأخبار فلا يذكرها بتمامها، بل يقتصر على موضع الحاجة ويحذف الأسانيد رغبة منه فى الاختصار.
٢ - أنه لا يتعرض لبيان جميع ما يتعلق بظاهر الآيات إلا إذا وجد أن التصريح بالمعنى الظاهر أمر لازم محترم، وقد جعل مدار هذا التفسير على بيان ما يتعلق بالبطون لخلو أكثر التفاسير منها أو من جُلِّها.
٣ - أنه إذا لم يعثر على نص يفسِّر به الآية اجتهد فى تفسيرها على وفق الأخبار العامة المطلقة التى يمكن استخلاص معنى الآية منها.
٤ - أنه يحرص كل الحرص على ذكر ما يعرفه من قراءة أهل البيت عند كل آية من القرآن.
ثم ذكرأنه وفق لما وفق إليه من كتابه التفسير "ببركات أول مَن آمن بالله بعين الإيقان، وثانى أول ما خلق الله قبل الكون والمكان، قاسم درجات الجنان ودركات النيران... إمام المشارق والمغارب، أمير المؤمنين أبى الحسنين علىّ بن أبى طالب". ثم قال: "وكنت لا أرجو من الإقدام على هذا الأمر إلا أن يدخلنى فى شيعته الخاصين. وأوليائه الخالصين. وأن تدركنى شفاعته المقبولة، وحمايته المأمولة، وجعلته خدمة لسدته السنية، وثوابه هدية إلى حضرته العلية، وسميته "مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار".
وبالجملة.. فهذا التفسير أشبه ما يكون بالتفسير المأثور، لالتزام صاحبه فيه بيان المعنى بما ورد من الأخبار عن علماء أهل البيت إما صريحاً أو استخلاصاً من عموم الأخبار، غاية الأمر أن هذه الأخبار أخبار لا يُوثق بصحتها، ولا يُعوَّل على صدق نسبتها إلى مَن تُنسب إليه من علماء آل البيت رضى الله عنهم.
بعد هذا البيان قال المولى عبد اللطيف الكازرانى: "ولنذكر قبل الشروع فى المقصود ثلاث مقدمات نافعة لابد من بيانها ههنا".
ونستعرض هذه المقدمات الثلاث فنراه قد جعل المقدمة الأولى فى بيان ما يوضح حقيقة ورود بطن القرآن فيما يتعلق بدعوة الولاية والإمامة، كما أن ورود ظهره فيما يتعلق بدعوة التوحيد والنبوة والرسالة، وأن الأصل فى تنزيل آيات القرآن بتأويلها، إنما هو الإرشاد إلى ولاية النبى والأئمة صلوات الله عليهم وإعلام عز شأنهم وذل حال شانئهم، بحيث لا خير أخبر به إلا وهو فيهم وفى أتباعهم وعارفيهم، ولا سوء ذُكِر فيه إلا وهو صادق على أعدائهم وفى مخالفيهم. قال: "ويستبين ذلك فى ثلاث مقالات:
المقالة الأولى: فى بيان ما يوضح المقصود بحسب الأخبار الواردة فى خصوص هذه المقدمة، وهى تتم بفصول. ثم ذكر ثلاثة فصول.
جعل الفصل الأول منها فى بيان نبذ مما يدل على أن للقرآن بطوناً ولآياته تأويلات. وأن مفاد القرآن غير مقصور على أهل زمان واحد، بل لكل منها تأويل يجرى فى كل أوان وعلى أهل كل زمان...
ثم ساق الروايات الدالة على ذلك وكلها مسندة إلى آل البيت، فمن هذه الروايات ما رواه العياشى وغيره عن جابر قال: "سألت أبا جعفر عليه السلام عن شئ من تفسير القرآن فأجابنى، ثم سألته ثانية فأجابنى بجواب آخر، فقلت: جُعِلتُ فداك، كيف أجبت فى هذه المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم؟ فقال لى: يا جابر؛ إن للقرآن بطناً، وللبطن بطناً وظهراً. يا جابر؛ وليس شئ أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن.. إن الآية ليكون أولها فى شئ وآخرها فى شئ وهو كلام متصل يتصرف على وجوه".
ثم عقب المولى عبد اللطيف على هذا الخبر فقال: "دلالة مبدأ هذا الخبر على وجود تأويل له باطن وظاهر، وعلى تعدد تأويل آية واحدة، وعلى عدم تنافى تأويل أول آية فى شئ وآخرها فى آخر، بل عدم تنافى التفسير بالظاهر فى أولها والباطن فى آخرها أو بالعكس ظاهرة، فإذا سمعت شيئاً من ذلك فلا تنكره، لأنهم عليهم السلام أعلم بالتنزيل والتأويل، وبما فيه إصلاح السائل والسامع، ولهذا ورد: "إن القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن الوجوه". ويؤيده ما فى الكافى عن الصادق عليه السلام أنه قال لعمر بن يزيد لما سأله عن قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ﴾: هذه نزلت فى رحم آل محمد ﷺ وقد يكون فى قرابتك، فلا تكونن ممن يقول للشئ إنه فى شئ واحد".