كما أنه لم يغال فى شأن علىّ بما يجعله فى مرتبة الإله أو مصاف الأنبياء، وإن كان يقول بالعصمة. ولقد وجدناه يروى عن رسول الله ﷺ حديثاً فى شأن مَن وإلى علياً ومَن عاداه، وهو بصرف النظر عن درجته من الصحة يدل على أن الرجل وقف موقفاً وسطاً أو فوق الوسط إلى حد ما فيه من حبه لعلىّ رضى الله عنه، هذا الحديث هو ما رواه فى الوجه الرابع من الوجوه التى قيلت فى سبب نزول قوله تعالى فى الآية [٥٧] من سورة الزخرف: ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ﴾، حيث قال: ".. ورابعها: ما رواه سادة أهل البيت عن علىّ عليهم أفضل الصلوات أنه قال: جئت إلى رسول الله يوماً فوجدته فى ملإٍ من قريش فنظر إلىّ ثم قال: يا علىّ؛ إنما مثلك فى هذه الأمة كمثل عيسى ابن مريم أحبه قوم فأفرطوا فى حبه فهلكوا، وأبغضه قوم وأفرطوا فى بغضه فهلكوا، واقتصد فيه قوم فنجوا، فعظم ذلك عليهم فضحكوا وقالوا: يشبه بالأنبياء والرسل.. فنزلت الآية".
وكل ما لاحظناه عليه من تعصبه أنه يدافع بكل قوة عن أُصول مذهبه وعقائد أصحابه، كما أنه إذا روى أقوال المفسِّرين فى آية من الآيات ونقل أقوال المفسِّرين من أهل مذهبه فيها نجده يرتضى قول علماء مذهبه ويؤيده بما يظهر له من الدليل. فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٥٨] من سورة النساء: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى؟ أَهْلِهَا﴾... الآية، يقول: "قيل فى المعنىِّ بهذه الآية أقوال".. ثم يذكر الأقوال، ويذكر ما رواه أصحابه عن أبى جعفر الباقر وأبى عبد الله الصادق من أنهما قالا: "أمر الله كل واحد من الأئمة أن يُسلِّم الأمر إلى مَن بعده".. ثم قال مؤيداً لهذا القول: "ويعضده أنه أمر الرعية بعد هذا بطاعة ولاة الأمر. وروى عنهم أنهم قالوا: آيتان إحداهما لنا والأخرى لكم، قال الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى؟ أَهْلِهَا﴾، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾... الآية".
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٥٩] من سورة النساء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾.. الآية، نجده بعد أن يذكر ما جاء عن بعض السَلَف من أن المراد بأُولى الأمر الأمراء، وما جاء عن بعضهم من أن المراد بهم العلماء يقول: "وأما أصحابنا فإنهم رووا عن الباقر والصادق أن أُولى الأمر هم الأئمة من آل محمد، أوجب الله طاعتهم بالإطلاق كما أوجب طاعته وطاعة رسوله، ولا يجوز أن يوجب الله طاعة أحد على الإطلاق إلأا من ثبت عصمته، وعلم أن باطنه كظاهره، وأمن منه الغلط والأمر بالقبيح، وليس ذلك بحاصل فى الأمراء ولا العلماء سواهم، جلَّ الله أن يُطاعه من يعصيه، أو بالانقياد للمختلفين فى القول والفعل، لأنه محال أن يُطاع المختلفون، كما أنه محال أن يجتمع ما اختلفوا فيه. ومما يدل على ذلك أيضاً أن الله لم يقرن طاعة أُولى الأمر بطاعة رسوله كما قرن طاعة رسوله بطاعته، ألا وإن أُولى الأمر فوق الخلق جميعاً، كما أن الرسل فوق أُولى الأمر وفوق سائر الخلق، وهذه صفة أئمة الهدى من آل محمد الذين ثبتت إمامتهم وعصمتهم، واتفقت الأمة على علو رتبتهم وعدالتهم".
وبعد.. أفلا ترى معى أن هذا التفسير يجمع بين حسن الترتيب، وجمال التهذيب، ودقة التعليل، وقووة الحُجَّة؟ أظن أنك معى فى هذا، وأظن أنك معى أيضاً فى أن الطبرسى وإن دافع عن عقيدته ونافح عنها لم يغل غلو غيره ولم يبلغ به الأمر إلى الدرجة التى كان عليها المولى الكازرانى وأمثاله من غلاة الإمامية الإثنا عشرية.
* * *