فهل نستطيع أن نستخلص من ذلك: أن الفرَّاء المتوفى سنة ٢٠٧ هـ، هو أول مَن دَوَّن تفسيراً جامعاً لكل آيات القرآن مرتَّباً على وفقٍ ترتيب المصحف؟ وهل نستطيع أن نقولك إن كل مَن تقدَّم الفرَّاء من المفسِّرين كانوا يقتصرون على تفسير المشكل فقط؟.. لا.. لا نستطيع أن نفهم هذا من عبارة ابن النديم لأنها غير قاطعة فى هذا، كما لا نستطيع أن نميل إليه كما مال إليه الأستاذ أحمد أمين فى كتابه ضحى الإسلام (جـ ٢ ص ١٤١)، وذلك لأن كتاب "معانى القرآن" للفرَّاء شبيه فى تناوله للآى على ترتيبها فى السور بكتاب "مجاز القرآن" لأبي عبيدة، فإنه يتناول السور على ترتيبها، ويعرض لما فى السورة من آ تحتاج لبيان مجازها - أى المراد منها - فليس للفرَّاء أوَّلية فى هذا، بل تلك على ما يبدو كانت خطة العصر، ثم إن ما نُقِل لنا عن السَلَف يُشعر - وإن كان غير قاطع - بأن استيفاء التفسير لسوء القرآن وآياته كان عملاً مبكراً لم يتأخر إلى نهاية القرن الثانى وأوائل الثالث، فمثلاً يقول ابن أبى مليكة: "رأيت مجاهداً يسأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، فيقول له ابن عباس: اكتب. قال: حتى سأله عن التفسير كله".
ونجد الحافظ ابن حجر عندما ترجم لعطاء بن دينار الهذلى المصرى فى كتابه "تهذيب التهذيب" يقول: "قال علىّ بن الحسن الهسنجانى، عن أحمد ابن صالح: عطاء بن دينار، من ثقات المصريين، وتفسيره فيما يروى عن سعيد بن جبير صحيفة، وليس له دلالة على أنه سمع من سعيد بن جبير، وقال أبو حاتم: صالح الحديث إلا أن التفسير أخذه من الديوان، وكان عبد الملك بن مروان (المتوفى سنة ٨٦ هـ) سأل سعيد بن جبير أن يكتب إليه بتفسير القرآن، فكتب سعيد بهذا التفسير، فوجده عطاء بن دينار فى الديوان فأخذه فأرسله عن سعيد بن جبير".
فهذا صريح فى أن سعيد بن جبير رضى الله عنه جمع تفسير القرآن فى كتاب، وأخذه من الكتاب عطاء بن دينار، ومعروف أن سعيد بن جبير قُتِل سنة ٩٤ - أو سنة ٩٥ هجرية - على الخلاف فى ذلك، ولا شك أن تأليفه هذا كان قبل موت عبد الملك بن مروان المتوفى سنة ٨٦ هجرية.
وكذلك نجد فى وفيات الأعيان ( جـ ٢ ص ٣): أن عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة، كتب تفسيراً للقرآن عن الحسن البصرى، ومعلوم أن الحسن توفى سنة ١١٦ هجرية.
ومرَّ بنا فيما سبق ( ص ٨٥) أن ابن جريج المتوفى سنة ١٥٠ هجرية له ثلاثة أجزاء كبار فى التفسير رواها عنه محمد بن ثور، فإذا انضم إلى هذا ما نلاحظه من قوة اتصال القرآن بالحياة الإسلامية، وشدة عناية القوم بأخذ الأحاكم وغيرها من آيات القرآن، وحاجاتهم المُلِّحة فى ذلك، نستطيع أن نقول إن الفرَّاء لم يُسبق إلى هذا الاستيفاء والتقصى، بل هو مسبوق بذلك، وإن كنا لا نستطيع أن نُعيِّن مَن سبق إلى هذا العمل على وجه التحقيق، ولو أنه وقع لنا كل ما كتب من التفسير من مبدأ عهد التدوين. لأمكننا أن نُعيِّن المفسِّر الأول الذى دوَّن التفسير على هذا النمط.
* *
* الخطوة الرابعة:
ثم إن التفسير لم يقف عند هذه الخطوة الثالثة بل خطا بعدها خطوة رابعة، لم يتجاوز بها حدود التفسير بالمأثور، وإن كان قد تجاوز روايته بالإسناد، فصنَّف فى التفسير خلق كثير، اختصروا الأسانيد، ونقلوا الأقوال المأثورة عن المفسِّرين من أسلافهم دون أن ينسبوها لقائليها، فدخل الوضع فى التفسير والتبس الصحيح بالعليل، وأصبح الناظر فى هذه الكتب يظن أن كل ما فيها صحيح، فنقله كثير من المتأخرين فى تفاسيرهم، ونقلوا ما جاء فى هذه الكتب من إسرائيليات على أنها حقائق ثابتة، وكان ذلك هو مبدأ ظهور خطر الوضع والإسرئليات فى التفسير. وسنعرض لهذا بالبيان والتفصيل فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ولقد وُجِد من بين هؤلاء المفسِّرين مَن عَنِى بجمع شتات الأقوال، فصار كلما سنح لَه قول أورده، وكلما خطر بباله شئ اعتمده، فيأتى مَن بعده وينقل ذلك عنه بدون أن يتحرى الصواب فيما ينقل، ويدون التفاوت منه إلى تحرير ما ورد عن السلَف الصالح ومَن يرجع إليهم فى التفسير، ظناً منه أن كل ما ذكر له أصل ثابت!! وليس أدل على نهم هؤلاء القوم بكثرة النقل من أن بعضهم ذكر فى تفسير قوله تعالى: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّآلِّينَ﴾ عشرة أقوال مع أن تفسيرها باليهود والنصارى، هو الوارد عن رسول الله ﷺ وعن جميع الصحابة والتابعين، حتى قال ابن أبى حاتم: "لا أعلم فى ذلك اختلافاً بين المفسِّرين".
* *
* الخطوة الخامسة:
ثم خطا التفسير بعد ذلك خطوة خامسة، هى أوسع الخطا وأفسحها، امتدت من العصر العباسى إلى يومنا هذا، فبعد أن كن تدوين التفسير مقصوراً على رواية ما نُقِل عن سَلَف هذه الأمة، تجاوز بهذه الخطوة الواسعة إلى تدوين تفسير اختلط فيه الفهم العقلى بالتفسير النقلى، وكان ذلك على تدرج ملحوظ فى ذلك.
* * *
* تدرج التفسير العقلى: