وما قاله الذهبى من أن ما فى الحقائق تحريف وقرمطة - يريد أنه كتفسير الرامطة من الباطنية - فهذا غير صحيح، لأن الرجل يقر الظواهر على ظواهرها، والقرامطة بخلاف ذلك.
وأما ما قاله السبكى من أن السلمى قد اقتصر فى حقائقه على تأويلات للصوفية ينبو عنها اللَّفظ فهذه كلمة حق لا غبار عليها.
وأما قول الواحدى: إنه لو اعتقد أن ما فى الحقائق تفسير لكفر باعتقاده هذا، فنقول فيه: إن أبا عبد الرحمن لم يعتقد أن هذا تفسير، وإنما قال: إنه إشارات تخفى وتدق إلا على أربابها، كما صرَّح بذلك فى مقدمة حقائق التفسير.
وأما قول ابن تيمية: إن ما يُنقل فى حقائق السلمى من التفسير عن جعفر عامته كذب على جعفر، فهذه كلمة حق من ابن تيمية، إذ أن غالب ما جاء فيه عن جعفر الصادق كله من وضع الشيعة عليه، ولست أدرى كيف اغتر السلمى وهو العالم المحدِّث بمثل هذه الروايات المختلفة الموضوعة...
* *
* نماذج من تفسير السلمى:
وإذ قد فرغنا من الحديث على حقائق التفسير، فاسمع بعض ما جاء فيه، لتحم أنت بدورك عليه:
فى سورة النساء عند قول الله تعالى فى الآية [٦٦]: ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُو؟اْ أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ﴾.. يقول: "قال محمد بن الفضل: ﴿اقْتُلُو؟اْ أَنْفُسَكُمْ﴾ بمخالفة هواها، ﴿أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ﴾ أى أخرجوا حب الدنيا من قلوبكم ﴿مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ﴾ فى العدد، كثير فى المعانى، وهم أهل التوفيق والولايات الصادقَة".
وفى سورة الرعد عند قوله تعالى فى الآية [٣]: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ﴾.. يقول: "قال بعضهم: هو الذى بسط الأرض وجعل فيها أوتاداً من أوليائه وسادة من عبيده فإليهم الملجأ، وبهم النجاة، فمَن ضرب فى الأرض يقصدهم فاز ونجا، ومَن كان بغيته لغيرهم خاب وخسر. سمعت علىّ بن سعيد يقول: سمعت أبا محمد الحريرى يقول: كان فى جوار الجنيد إنسان مصاب فى خربة؛ فلما مات الجنيد وحملنا جنازته حضر الجنازة، فلما رجعنا تقدم خطوات وعلا موضعاً من الأرض عالياً، فاستقبلنى بوجهه وقال: يا أبا محمد؛ إنى لراجع إلى تلك الخربة وقد فقدت ذلك السيد، ثم أنشد شعراً:
*وما أسفى من فراق قوم * هم المصابيح، والحصون*
*والمدن، والمزن، والرواسى * والخير، والأمن، والسكون*
*لم تتغير لنا الليالى * حتى توفتهم المنون*
*فكل جمر لنا قلوب * وكل ماء لنا عيون"*
وفى سورة الحج عند قوله تعالى فى الآية [٦٣]: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً﴾.. يقول: قال بعضهم: أنزل مياه الرحمةَ من سحائب القُربة، وفتح إلى قلوب عباده عيوناً من ماء الرحمة، فأنبتت فاخضرت بزينة المعرفة، وأثمرت الإيمان، وأينعت التوحيد. أضاءت بالمحبة فهامت إلى سيدها، واشتاقت إلى ربها فطارت بهمتها، وأناخت بين يديه، وعكفت فأقبلت عليه، وانقطعت عن الأكوان أجمع، ذاك آواها الحق إليه، وفتح لها خزائن أنواره، وأطلق لها الخيرة فى بساتين الأُنس، ورياض الشوق والقدس".
وفى سورة الرحمن عند قوله تعالى فى الآية [١١]: ﴿فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ﴾.. يقول: "قال جعفر: جعل الحق تعالى فى قلوب أوليائه رياض أُنسه، فغرس فيها أشجار المعرفة، أُصولها ثابتة فى أسرارهم، وفروعها قائمة بالحضرة فى المشهد، فهم يجنون ثمار الأُنس فى كل أوان، وهو قوله تعالى: ﴿فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ﴾ أى ذات الألوان، كل يجتنى منه لوناً علَى قدر سعته، وما كوشفت له من بوادى المعرفة وآثار الولاية".
وفى سورة الانفطار عند قوله تعالى فى الآيتين [١٣، ١٤]: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾.. يقول: "قال جعفر: النعيم المعرفة والمشاهدة، والجحيم النفوس، فإن لها نيران تتقد".
وفى سورة النصر عند قوله تعالى فى أولها: ﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾.. يقول: "قال ابن عطاء الله: إذا شغلك به عما دونه فقد جاءكَ الفتح من الله تعالى، والفتح هو النجاة من السجن البشرى بلقاء الله تعالى".
* * *