( مذهب ابن عربى فى وحدة الوجود )
أما مذهبه فى وحدة الوجود فهو: أنه يرى أن الوجود حقيقة واحدة. ويعد التعدد والكثرة أمراً قضت به الحواس الظاهرة "وقد أداه قوله بوحدة الوجود إلى قوله بوحدة الأديان، لا فرق بين سماويها وغير سماويها، إذ الكل يعبدون الإله الواحد المتجلى فى صورهم، وصور جميع المعبودات، والغاية الحقيقية من عبادة العبد لربه: هو التحقق من وحدته الذاتية معه. وإنما الباطل من العبادة: أن يُقصر العبد ربه على مجلى واحد دون غيره، ويسميه إلهاً".
"وبالجملة، فمنزلة ابن عربى العلمية كبيرة، ولا أدل على ذلك من مؤلفاته الكثيرة التى تدل على سعة باعه، وتبحره فى العلوم الظاهرة والباطنة، وقد بلغ ما بقى منها إلى اليوم مائة وخمسون كتاباً، ويظهر أن هذا العدد ليس إلا نصف ما ألَّفه ابن عربى فى الواقع". وأهم هذه المؤلفات "الفتوحات المكية" الذى ذاع صيته. وكلف به كثير من الرجال، ثم "فصوص الحكم"، وله ديوان فى الأشعار الصوفية، وكتاب "الأخلاق"، وكتاب "مجموع الرسائل الإلهية"، وغير ذلك من مؤلفاته الكثيرة.
غير أن هذه المؤلفات يوجد فى تضاعيفها كثير من الكلمات المشكلة، التى سببت خوص الناس فى عقيدته، ورميهم إياه بالكفر والزندقة، ولكن أتباعه ومريديه ومَن أعجب به من العلماء لم يأخذوا هذه الألفاظ على ظواهرها بل قالوا: إن ما أوهمته تلك الظواهر ليس هو المراد، وإنما المراد أُمور اصطلح عليها متأخروا أهل الطريق غيرة عليها. حتى لا يدَّعيها الكذَّابون. وقد قال السيوطى فى كتابه "تنبيه الغبى على تنزيه ابن عربى": "والقول الفصل فى ابن عربى: اعتقاد ولايته، وتحريم النظر فى كتبه، فقد نُقِل عنه هو أنه قال: نحن قوم يحرم النظر فى كتبنا. قال السيوطى: وذلك لأن الصوفية تواضعوا على ألفاظ اصطلحوا عليها. وأرادوا بها معانى غير المعانى المتعارفة، فمَن حمل ألفاظهم على معانيها المتعارفة بين أهل العلم الظاهر كفر. نص على ذلك الغزالى فى بعض كتبه وقال: إنه شبيه بالمتشابه من القرآن والسُّنَّة، مَن حمله على ظاهره كفر".
ومما استدلوا به على أن ابن عربى لا يريد الظاهر الموهم من كلامه: ما يروونه عنه من أنه أنشد بعض إخوانه هذا البيت وهو من نظمه:
*يا من يرانى ولا أراه * كم ذات أراه ولا يرانى*
فاعترض عليه السامع وقال: كيف تقول إنه لا يراك، وأنت تعلم أنه يراك؟ فقال مرتجلاً:
*يامن يرانى مجرماً * ولا أراه آخذاً*
*كم ذا أراه منعماً * ولا يرانى لائذاً*
قالوا: فهذا يدل على أن كلام الشيخ لا يُراد به ظاهره، وإنما له محامل تليق به.
ومن العلماء مَن يُنزِّه ابن عربى عن هذه العبارات الموهمة ويقول: إن ما جاء من ذلك فهو مدسوس عليه، ويروون فى ذلك أن الشعرانى الذى اختصر الفتوحات قال: "وقد توقفتُ حال الاختصار فى مواضع كثيرة منه، لم يظهر لى موافقتها لما عليه أهل السُّنَّة والجماعة. فحذفتها من هذا المختصر. وربما سهوت فتبعت ما فى الكتاب، كما وقع للبيضاوى مع الزمخشرى، ثم لم أزل كذلك أظن أن المواضع التى حُذفت ثابتة عن الشيخ محيى الدين، حتى قدم علينا الأخ العالِم الشريف شمس الدين السيد محمد بن السيد أبى الطيب المدنى المتوفى سنة ٩٥٥ هـ (خمسة وخمسون وتسعمائة من الهجرة)، فذاكرته فى ذلك، فأخرج إلىّ نسخة من الفتوحات التى قابلها على النسخة التى عليها خط للشيخ محيى الدين نفسه بقونية، فلم أر فيها شيئاً مما توقفت فيه وحذفته، فعلمت أن النسخ التى فى مصر الآن كلها كتبت من النسخة التى دسوا على الشيخ فيها ما يخالف عقائد أهل السُّنَّة والجماعة، كما وقع له ذلك فى كتاب الفصوص وغيره".
ومهما يكن من شىء، فابن عربى مُعقَّد فى أفكاره، موهم فى ألفاظه وتعابيره، مشكل فى أكثر ما يقول. ومع كل هذا فلا أتهمه فى عقيدته، لجهلى باصطلاحات القوم ورموزهم. وكلمه الإنصاف فيه - كما أعتقد - قول الحافظ الذهبى عنه: "وله توسع فى الكلام، وذكاء، وقوة خاطر، وحافظة وتدقيق فى التصوف، وتآليفه جمَّة فى العرفان، ولولا شطحه فى الكلام لم يكن به بأس".
* *


الصفحة التالية
Icon