وإذا أردتَ أن أضع يدك على شىء من إنصاف الرجل واستعماله لعقله، فانظر إليه عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [١٨٧] من سورة البقرة: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ﴾... الآية، حيث يقول: "المسألة السادسة عشرة: قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾: الاعتكاف فى اللُّغة هو اللبث، وهو غير مقدَّر عند الشافعى، وأقله لحظة، ولا حد لأكثره. وقال مالك وأبو حنيفة: هو مقدَّر بيوم وليلة، لأن الصوم عندها من شرطه. قال علماؤنا: لأن الله تعالى خاطب الصائمين. وهذا لا يلزم فى الوجهين: أما اشتراط الصوم فيه بخطابه تعالى لمن صام فلا يلزم بظاهره ولا باطنه، لأنها حال واقعة لا مشترطة، وأما تقديره بيوم وليلة لأن الصوم من شرطه فضعيف، فإن العبادة لا تكون مقدَّرة بشرطها، ألا ترى أن الطهارة شرط فى الصلاة، وتنقضى الصلاة، وتبقى الطهارة.."؟.
فأنت ترى أن المؤلف - رحمه الله - لم يرقه هذا الاستدلال الذى أظهر بطلانه، وهذا دليل على أنه يستعمل عقله الحر أحياناً، فلا يسكت على الزَلَّة العلمية فيما يعتقد، وإن كان فيها ترويج لمذهبه.
وانظر إليه عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٦] من سورة المائدة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ﴾... الآية، حيث يقول: "المسألة السابعة والعشرون فى قوله تعالى: ﴿بِرُءُوسِكُمْ﴾، ثم يذكر أن العلماء اختلفوا فى مسح الرأس على أحد عشر قولاً، ثم يأخذ فى بيانها واحداً واحداً، ثم يقول: "ولكل قول من هذه الأقوال مطلع من القرآن والسُّنَّة"، ثم يذكر لنا مطلع كل قول، ثم يقول بعد أن يفرغ من هذا كله: "وليس يخفى على أحد عند اطلاعه على هذه الأقوال والأنحاء والمطلعات أن القوم لم يخرج اجتهادهم عن سبيل الدلالات فى مقصود الشريعة، ولا جاوز طرفيها إلى الإفراط، فإن للشريعة طرفين، أحدهما طرف التخفيف فى التكليف، والآخر طرف الاحتياط فى العبادات، فمَن احتاط استوفى الكل، ومَن خفف أخذ بالبعض..".
وانظر إليه فى الآية السابقة حيث يقول: "المسألة السادسة والأربعون: نزع علماؤنا بهذه الآية إلى أن إزالة النجاسة غير واجبة، لأنه قال: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ﴾، تقديره - كما سبق - "وأنتم محدثون"، ﴿فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ﴾، فلم يذكر الاستنجاء وذكر الوضوء، ولو كان واجباً لكان أول مبدوء به.. وهى رواية أشهب عن مالك. وقال ابن وهب: لا تجزئ الصلاة بها لا ذاكراً ولا ناسياً.. والصحيح رواية ابن وهب، ولا حُجَّة فى ظاهر القرآن، لأن الله سبحانه وتعالى إنما بيَّن فى آية الوضوء صفة الوضوء خاصة، وللصلاة شروط: من استبقال الكعبة، وستر العورة، وإزالة النحاسة... وبيان كل شرط منها فى موضعه".
فأنت ترى أنه لا يميل إلى رواية أشهب عن مالك، ولا يرى فى ظاهر الآية ما يشهد له.
* *
* طرف من تعصبه لمذهبه:
وإن أردتَ أن أضع يدك على شىء من تعصب ابن العربى، فانظر إليه عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٨٦] من سورة النساء: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ﴾.... الآية، حيث يقول: "المسألة السابعة: إذا كان الرد فرضاً بلا خلاف، فقد استدل علماؤنا على أن هذه الآية دليل على وجوب الثواب فى الهبة للعين، وكما يلزمه أن يرد مثل التحية يلزمه أن يرد مثل الهبة، وقال الشافعى: ليس فى هبة الأجنبى ثواب.. وهذا فاسد، لأن المرء ما أَعطى إلا ليعطى، وهذا هو الأصل فيها، وإنَّا لا نعمل عملاً لمولانا إلا ليعطينا، فكيف بعضنا لبعض"؟
* *
* حملته على مخالفى مذهبه:
وإن أردتَ أن تقف على مبلغ قسوته على أئمة المذاهب الأخرى وأتباعهم، فانظر إليه عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٢٢٩] من سورة البقرة: ﴿الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً﴾.... الآية، حيث يقول: "المسألة الرابعة عشرة: هذا يدل على أن الخُلْع طلاق، خلافاً لقول الشافعى فى القديم إنه فسخ. وفائدة الخلاف أنه إن كان فسخاً لم يُعَد طلقة. قال الشافعى: لأن الله تعالى ذكر الطلاق مرتين وذكر الخُلْع بعده، وذكر الثالث بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ﴾.
وهذا غير صحيح، لأنه لو كان كل مذكور فى معرض هذه الآيات لا يُعَد طلاقاً لوقوع الزيادة على الثلاث لما كان قوله تعالى ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ﴾ طلاقاً، لأنه يزيد به على الثلاث، ولا يفهم هذا إلا غبى أو متغاب.... إلخ".