وانظر إليه عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٤٣] من سورة النساء: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً﴾... الآية، حيث يقول: "المسألة الثامنة والعشرون: قوله تعالى: "ماءً".. قال أبو حنيفة: هذا نفى فى نكرة وهو يعم لغة، فيكون مفيداً جواز الوضوء بالماء المتغير وغير المتغير لانطلاق اسم الماء عليه.. قلنا: استنوق الجمل إلى أن يستدل أصحاب أبى حنيفة باللُّغات، ويقولون على ألسنة العرب وهم ينبذونها فى أكثر المسائل بالعراء. واعلموا أن النفى فى النكرة يعم كما قلتم، ولكن فى الجنس، فهو عام فى كل ما كان من سماء، أو بئر، أو عين، أو نهر، أو بحر عذب أو ملح، فأما غير الجنس فهو المتغير فلا يدخل فيه، كما لم يدخل فيه ماء الباقلاء...".
ونجده فى موضع من كتابه يرمى أبا حنيفة بأنه كثيراً ما يترك الظواهر والنصوص للأقيسة، ويقول عنه فى موضع آخر إنه: "سكن دار الضرب فكثر عنده المدلس، ولو سكن المعدن كما قيَّض الله لمالك، لما صدر عنه إلا إبريز الدين وإكسير المِلَّة، كما صدر عن مالك".
وانظر إليه عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٦] من سورة المائدة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ﴾.... الآية، حيث يقول فى تعريض ساخر: "المسألة الحادية عشرة، قوله عَزَّ وجَلَّ: ﴿فاغْسِلُواْ﴾، وظن الشافعى - وهو عند أصحابه معد بن عدنان فى الفصاحة بله أبى حنيفة وسواه - أن الغسل صب الماء على المغسول من غير عرك، وقد بيَّنا فساد ذلك فى مسائل الخلاف. وفى سورة النساء، وحققنا أن الغسل مس اليد مع إمرار الماء، أو ما فى معنى اليد".
وانظر إليه عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٣] من سورة النساء: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذالِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ﴾.. حيث يقول: "المسألة الثانية عشرة، قوله تعالى: ﴿ذالِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ﴾ اختلف الناس فى تأويله على ثلاثة أقوال: الأول: أن لا يكثر عيالكم، قاله الشافعى. الثانى: أن لا تضلوا، قاله مجاهد. الثالث: أن لا تميلوا، قاله ابن عباس والناس.. قلنا: أعجب أصحاب الشافعى بكلامه هذا، وقالوا هو حُجَّة، لمنزلة الشافعى فى اللُّغة، وشهرته فى العربية، والاعتراف له بالفصاحة، حتى قال الجوينى: هو أفصح مَن نطق بالضاد، مع غوصه على المعانى ومعرفته بالأصول.. واعتقدوا أن معنى الآية: فانكحوا واحدة إن خفتم أن يكثر عيالكم، فذلك أقرب إلى أن تنتفى عنكم كثرة العيال.. قال ابن العربى: "كل ما قاله الشافعى، أو قيل عنه، أو وُصف به، فهو كله جزء من مالك ونغبة من بحره، ومالك أوعى سمعاً، وأثقب فهماً، وأفصح لساناً، وأبرع بياناً، وأبدع وصفاً، ويدلك على ذكل مقابلة قول بقول لى كل مسألة وفصل".
ثم تكلم بعد ذلك عن معنى لفظ "عال" فى اللُّغة. ثم قال: "والفعل فى كثرة العيال رباعى لا مدخل له فى الآية، فقد ذهبت الفصاحة، ولم تنفع الضاد المنطوق بها على الاختصاص".
وانظر إليه عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٢٥] من سورة النساء: ﴿وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ﴾.... الآية، حيث يقول: "المسألة الخامسة: قال أبو بكر الرازى إمام الحنفية فى كتاب أحكام القرآن: ليس نكاح الأَمَة ضرورة، لأن الضرورة ما يُخاف منه تلف النفس، أو تلف عضو، وليس فى مسألتنا شىء من ذلك. قلنا: هذا كلام جاهل بمنهاج الشرع، أو متهكم لا يبالى بموارد القول. نحن لم نقل إنه حكم نيط بالضرورة، إنما قلنا: إنه حكم علق بالرخصة المقرونة بالحاجة، ولكل واحد منهما حكم يختص به. وحالة يعتبر فيها. ومَن لم يُفرِّق بين الضرورة والحاجة التى تكون معها الرُخصة، فلا يُعنى بالكلام معه، فإنه معاند أو جاهل، وتقرير ذلك إتعاب للنفس عند مَن لا ينتفع به".
فأنت ترى من هذه الأمثلة كلها. أن الرجل ليس عَفّ اللسان مع الأئمة، ولا مع أتباعهم، وهذه ظاهرة من ظواهر التعصب المذهبى، الذى يقود صاحبه إلى ما لا يليق به، ويدفعه إلى الخروج عن حد اللطافة والكياسة.
* *
* احتكامه إلى اللُّغة:
ثم إن المؤلف - رحمه الله - كثيراً ما يحتكم إلى اللُّغة فى استنباط المعانى من الآيات، وفى الكتاب من ذلك أمثلة كثيرة يمكن الرجوع إليها بسهولة.
* *
* كراهته للإسرائيليات: