وحرصاً منهم لعى تعطيل عقول الناس ومنعهم من النظر الحر فى نصوص القرآن الكريم، قالوا: إنّ جميع معانى القرآن، سواء منها ما يتعلق بالظاهر وما يتعلق بالباطن، اختُص بها النبى ﷺ والأئمة من بعده، فهم الذين عندهم علم الكتاب كله، لأن القرآن نزل فى بيتهم "وأهل البيت أدرى بما فى البيت" أما مَن عداهم من الناس فلا يرون أدنى شبهة فى قصور علمهم، وعدم إدراكه لكثير من معانى القرآن الظاهرة، فضلاً عن معانيه الباطنة، قالوا: ولهذا لا يجوز لإنسان أن يقول فى القرآن إلا بما وصل إليه من طريقهم، غاية الأمر أنهم جوَّزوا لمن أخلص حبه وانقياده لله ولرسوله ولأهل البيت واستمد علومه من أهل البيت حتى أنس من نفسه العلم والمعرفة.. جوَّزوا لمثل هذا أن يستنبط من القرآن ما يتيسر له، لأنه بحبه لآل البيت وأخذه عنهم صار كأنه منهم وقد قيل: "سلمان منا آل البيت".
* *
* أثر التفسير الباطنى فى تلاعبهم بنصوص القرآن:
ولقد كان من نتائج هذا التفسير الباطنى للقرآن أن وجد القائلون به أمام أفكارهم مضطرباً بالغاً ومجالاً رحباً، يتسع لكل ما يشاؤه الهوى وتزينه لهم العقيدة، فأخذوا يتصرَّفون فى القرآن كما يحبون، وعلى أى وجه يشتهون بعد ما ظنوا أنّ العامة قد انخدعت بأوهامهم وسلَّموا بأفكارهم ومبادئهم.
فقالوا - مثلاً -: إنّ من لطف الله تعالى أن يشير بواسطة المعانى الباطنة لبعض الآيات إلى ما سيحدث فى المستقبل من حوادث، ويعدون هذا من وجوه إعجازه، ثم يُفرِّعون على هذه القاعدة ما يشاؤه لهم الهوى، وما يزينه فى أعينهم داعى العقيدة وسلطانها، فيقولون مثلاً فى قوله تعالى: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ﴾، إنه إشارة إلى أنّ هذه الأُمَّة ستسلك سبيل مَن كان قبلها من الأمم فى الغدر بالوصياء بعد الأنبياء.
كذلك مكَّن لهم القول بباطن القرآن من أن يقولوا: إنَّ اللفظ الذى يُراد به العموم ظاهراً كثيراً ما يراد به الخصوص بحسب المعنى الباطن، فمثلاً لفظ: "الكافرين" الذى يراد به العموم، يقولون: هو فى الباطن مخصوص بمن كفر بولاية علىّ.
كما مكَّنهم أيضاً من أن يصرفوا الخطاب الذى هو مُوجَّه فى الظاهر إلى الأمم السابقة أو إلى أفراد منها، إلى مَن يصدق عليه الخطاب فى نظرهم من هذه الأمة بحسب الباطن، فمثلاً قوله تعالى: ﴿وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ يقولون فيه: قوم موسى فى الباطن هم أهل الإسلام.
ولقد مكنَّهم أيضاً من أن يتركوا أحياناً المعنى الظاهر ويقولوا بالباطن وحده، كما فى قوله تعالى: ﴿وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً﴾، فالظاهر غير مراد عندهم، ويقولون: عنى بذلك غير النبى، لأن مثل هذا لا يليق أن يكون موجهاً للنبى عليه الصلاة والسلام، وإنما هو مَعنىٌّ به مَن قد مضى، أو هو من باب: "إياكِ أعنى واسمعنى ياجارة".
كذلك مكَّنهم هذا المبدأ من إرجاع الضمير إلى ما لم يسبق له ذكر، كما فى قوله تعالى: ﴿قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَاذَآ أَوْ بَدِّلْهُ﴾، حيث يفسرون: "أو بدله" بمعنى أو بدِّل علياً. ومعلوم أنّ علياً لم يسبق له ذكر، ولم يكن الكلام مسوقاً فى شأن خلافته وولايته.
ومما ساغ لهم أن يقولوه بعد تقريرهم لمبدأ القول بالباطن: أنَّ تأويل الآيات القرآنية لا يجرى على أهل زمان واخد، بل عندهم أنّ كل فقرة من فقرات القرآن لها تأويل يجرى فى كل آن، وعلى أهل كل زمان، فمعانى القرآن على هذا متجددة. حسب تجدد الأزمنة وما يكون فيها من حوادث. بل وساغ لهم ما هو أكثر من ذلك فقالوا: إنّ الآية الواحدة لها تأويلات كثيرة مختلفة متناقضة، وقالوا: إنّ الآية الواحدة يجوز أن يكون أولها فى شىء وآخرها فى شىء آخر. ولا شك أن باب التأويل الباطنى باب واسع يمكن لكل مَن ولجه أن يصل منه إلى كل ما يدور بخلده ويجيش بخاطره.
وليس لقائل أن يقول: إنّ رسول الله ﷺ صرَّح بأن للقرآن باطناً، وإن المفسرين جميعاً يعترفون بذلك ويقولون به، فكيف توجه اللوم إلى الإمامية وحدهم؟ ليس لقائل أن يقول ذلك، لأن الباطن الذى أشار إليه الحديث وقال به جمهور المفسرين، هو عبارة عن التأويل الذى يحتمله اللفظ القرآنى، ويمكن أن يكون من مدلولاته، أما الباطن الذى يقول به الشيعة فشىء يتفق مع أذواقهم ومشاربهم، وليس فى اللفظ القرآنى الكريم ما يدل عليه ولو بالإشارة.
* *
* مخلصهم من تناقض أقوالهم فى التفسير: