ثم إنّ الإمامية الإثنى عشرية، أحسوا بخطر موقفهم وتحرجه عندما جوَّزوا أن يكون للآية الواحدة أكثر من تفسير واحد مع التناقض والاختلاف بين هذه التفاسير. فأخذوا يموِّهون على العامة ويضللونهم، فقرروا من المبادئ ما أوجبوا الاعتقاد به أولاً على الناس ليصلوا بعد ذلك إلى مخلص يتخلصون به من هذا المأزق الحرج، فكان من هذه المبادئ التى قرروها وأوجبوا الاعتقاد بها ما يأتى:
أولاً: أن الإمام مفوَّض من قِبَلِ الله فى تفسير القرآن.
ثانياً: أنه مفوَّض فى سياسة الأمة.
ثالثاً: التقيَّة.
وكل واحد من هذه الثلاثة يمكن أن يكون مخلصاً للخروج من هذا التناقض الذى وقع فى تفاسيرهم التى يروونها عن أئمتهم، فكون الإمام مفوَّضاً من قِبَلِ الله فى تفسير القرآن مخلص لهم، لأن باب التفويض واسع. وكونه مفوِّضاً فى سياسة الأمة مخلص أيضاً، لأن الإمام أعلم بالتنزيل والتأويل، وأعلم بما فيه صلاح السائل والسامع، فهو يجيب كل إنسان على حسب ما يرى فيه صلاح حاله، والقول بالتقيَّة مخلص أوسع من سابقيه، لأن الإمام له أن يسكت ولا يجيب. تقيَّة منه "قيل عند الباقر: إنّ الحسن البصرى يزعم أن الذين يكتمون العلم تؤذى ريح بطونهم أهل النار، فقال الباقر: فهلك إذن مؤمن آل فرعون، وما زال العلم مكتوماً منذ بعث الله نوحاً، فليذهب الحسن يميناً وشمالاً، لا يوجد العلم إلا ههنا.... وأشار إلى صدره".
وللإمام أن يجيب بحسب الأحوال وما يرى فيه المصلحة... تقيَّة منه أيضاً، وبنوا على هذا "أن الإمام إن قال قولاً على سبيل التقيَّة فللشيعى أن يأخذ به ويعمل بما قاله الإمام إن لم يتنبه الشيعى إلى أن قول الإمام كان على سبيل التقيَّة".
ونحن لا نظن أن الأئمة كانوا يلجأون إلى هذه التقيَّة.. تقيَّة الخداع فى الأخبار، والنفاق فى الأحكام، وإنما هى تمحلات يتمحلونها، ليخلِّصوا بها أنفسهم من هذا الارتباك الذى وقعوا فيه.
* * *
٢- موقف القرآن من الأئمة وأوليائهم وأعدائهم
ثم إنّ الإمامية الإثنى عشرية، قرروا أن الإقرار بإمامة علىّ ومَن بعده من الأئمة والتزام حبهم وموالاتهم، وبُغض مخالفيهم وأعدائهم، أصل من أصول الإيمان، بحيث لا يصلح إيمان المرء إلا إذا حصل ذلك، مع الإقرار بباقى الأصول، كما قرروا وجوب طاعة الأئمة، واعتقاد أفضيلتهم على الخلائق أجمعين.
قرر الإمامية هذا كله، ثم أخذوا ينزلون نصوص القرآن على ما قرروه، بل وزادوا على ذلك فقالوا: إنّ كل آيات المدح والثناء وردت فى الأئمة ومَن والأوهم، وكل آيات الذم والتقريع وردت فى مخالفيهم وأعدائهم، بل ويدَّعون ما هو أكثر من ذلك فيقولون: إن جُلَّ القرآن بل كله، أُنزِل فى الإرشاد إليهم، والإعلان بهم، والأمر بموافقتهم، والنهى عن مخالفتهم.
ولقد كان من أثر زعمهم أن القرآن جُلَّه أو كله وارد فى أئمتهم ومَن والاهم، وفى أعدائهم ومَن وافقهم، أن قالوا: إنّ ما نسبه الله إلى نفسه بصيغة الجمع أو ضميرة سره أن أراد إدخال النبى ﷺ والأئمة معه. قالوا: وهو مجاز شائع معروف، بل وبالغوا فقالوا: إنّ الأئمة هم المقصودون بالذات أحياناً كما فى قوله تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمُونَا وَلَاكِن كَانُو؟اْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾، حيث رووا عن أبى جعفر محمد الباقر أنه قال فيها: إنّ الله أعظم وأعز وأجَل من أن يُظلم، ولكن خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه، وولايتنا ولايته، حيث يقول: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ﴾ بمعنى: الأئمة منا.
وأعجب من هذا، أنهم جعلوا لفظ الجلالة، والإله والرب، مراداً به الإمام وكذا الضمائر الراجعة إليه سبحانه، وتأوَّلوا ما أضافه الله إلى نفسه من الإطاعة والرضا والغنى والفقر مثلاً، بما يتعلق بالإمام كإطاعته، ورضاه وغناه وفقره... إلخ، ويعدُّون ذلك من قبيل المجاز الشائع المعروف. ولكن لا شيوع لمثل هذا المجاز ولا معرفة لنا به إذ المجاز المتعارف عليه بين العلماء هو استعمال اللفظ فى غير ما وُضِع له لعلاقة مع قرينة تمنع من إرادة المعنى الأصلى، وأين العلاقة هنا؟ وإذا تكلَّفوا العلاقة فإين القرينة الصارفة للفظ عن حقيقته؟ ثم.. لِمَ هذا التكلف والعدول إلى المجاز، وقد تقرر أنه لا يُعْدَل إلى المجاز إلا عند تعذر الحقيقة؟
* * *
٣- تحريف القرآن وتبديله