ويقول القيروانى فى رسالته التى أرسلها إلى سليمان بن الحسن: "... وينبغى أن تحيط بمخارق الأنبياء ومناقضاتهم فى أقوالهم، كعيسى ابن مريم، قال لليهود: لا أرفع شريعة موسى، ثم رفعها بتحريم الأحد بدلاً من السبت، وأباح العمل فى السبت، وأبدل قِبْلة موسى بخلاف جهتها.. وبذلك قتلته اليهود لما اختلفت كلمته، ولا تكن كصاحب الأمة المنكوسة حين سألوه عن الروح فقال: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾، لما لم يحضره جواب المسألة، ولا تكن كموسى فى دعواه التى لم يكن عليها برهان سوى المخرقة بحسن الحيلة والشعوذة، ولما لم يجد المحق فى زمانه عنده برهاناً قال له: ﴿لَئِنِ اتَّخَذْتَ الهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾، وقال لقومه: ﴿أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ لأنه صاحب الزمان فى وقته".
ثم قال فى آخر هذه الرسالة: "... وما العجب من شىء كالعجب من رجل يدّعى العقل، ثم يكون له أخت أو بنت حسناء وليس له زوجة فى حسنها، فيُحرِّمها على نفسه ويُنَكّحها من أجنبى، ولو عقل الجاهل لعلم أنه أحق بأخته وبنته من الأجنبى، ما وجه ذلك إلا أن صاحبهم حرّم عليهم الطيبات وخوّفهم بغائب لا يُعقل، وهو الإله الذى يزعمونه، وأخبرهم بكون ما لا يرونه أبداً من البعث من القبور، والحساب، والجنة، والنار، حتى استبعدهم بذلك عاجلاً جعلهم له فى حياته، ولذُرِّيته بعد وفاته خولاً، واستباح بذلك أموالهم بقوله: ﴿لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾، فكان أمره معهم نقداً وأمرهم معه نسيئة، وقد استعجل منهم بذل أرواحهم وأموالهم على انتظار موعود لا يكون، وهل الجنة إلا هذه الدنيا ونعيمها؟ وهل النار وعذابها إلا ما فيه أصحاب الشرائع من التعب والنَصَب فى الصلاة والصيام والجهاد والحج".
ثم قال لسليمان بن الحسن فى هذه الرسالة: "... وأنت وإخوانك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس، وفى هذه الدنيا ورثتم نعيمها ولذَّاتها المحرّمة على الجاهلين المتمسكين بشرائع أصحاب النواميس، فهنيئاً لكم ما نلتم من الراحة عن أمرهم".
ومن جملة تأويلاتهم الباطلة التى يتوصلون بها إلى هواهم النفسى، ومأربهم الشخصى، أنهم بعد أن يُلقوا على المدعو ما يشككونه به، وتتطلع إلى معرفته من جهتهم نفسه، يقولون له: لا نظهره إلا بتقديم خير عليه، فيطلبون مائة وتسعة عشر درهماً من السبيكة الخالصة. ويقولون: هذا تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً﴾، فالحاء والسين ولانون والألف إذا جمع عددها بحساب الجُمَّل يكون مبلغه مائة وتسعة عشر".
ومَن ذا الذى قال إن القرآن يخضع فى تفسيره وفهم معانيه إلى حساب الجُمَّل؟... اللَّهم إنّ هذا لا يصدر إلا عن مخرّف أو زنديق يريد أن يضل الناس ويحتال على سلب أموالهم بدعوى يدّعيها على كتاب الله!!
كذلك نجد الباطنية يحرصون على نفى وجود الإله الحق، والنبى المرسل محمد صلى الله عليه وسلم، ليتوصلوا بذلك إلى رفع التكاليف، فنراهم يقولون للمبتدئ: "إنَّ الله خلق الناس واختار منهم محمداً صلى الله عليه وسلم، فيستحسن المبتدئ هذا الكلام، ثم يقول له: أتدرى مَن محمد؟ فيقول: نعم، محمد رسول الله، خرج من مكة، وادّعى النبوة، وأظهر الرسالة، وعرض المعجزة. فيقول له: ليس هذا الذى تقوله إلا كقول هؤلاء الحمير - يعنون به المؤمنين من أهل الإسلام - إنما محمد أنت، فيستعيذ السامع ويقول: لست أنا محمداً، فيقول له: الله تعالى وصفه فى هذا القرآن فقال: ﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾، وهؤلاء الحمير يقولون: من مكة... فيقول له الغر الغمر: على أى معنى تقول أنا محمد؟ فيقول: خلقك وصوَّرك خِلْقة محمد، فالرأس بمنزلة الميم، واليدان بمنزلة الحاء، والسرة بمنزلة الميم، والرجلان بمنزلة الدال، وكذلك أنت علىّ أيضاً، عينك هى العين، والأنف هى اللام، والفم الياء".
وبهذا يوهمه أنه هو محمد الذى جاء ذكره فى القرآن، أما ما يدّعى من وجود رسول اسمه محمد، فهذا ظاهره غير مراد.
ولأجل أن يوهمه أيضاً بأنه لا إلَه موجود على الحقيقة، وما جاء فى القرآن من ذلك فظواهر غير مرادة، نجده يقول للمبتدئ: إن المراد بإثبات الذات يرجع إلى نفسك، ويؤولون عليه قوله تعالى: ﴿فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَاذَا الْبَيْتِ﴾، ويقولون: الرب هو الروح والبيت هو البدن.


الصفحة التالية
Icon