والقسم الثانى من فرق الغالية، الذين يقولون بالإلهية لغير الله عزَّ وجَلَّ، فأولهم قوم من أصحاب عبد الله بن سبأ الحميرى لعنه الله، أتوا إلى علىّ بن أبى طالب فقالوا مشافهة: أنت هو. فقال لهم: ومَن هو؟ قالوا: أنت الله، فاستعظم الأمر وأمر بنار فأججت وأحرقهم بالنار، فجعلوا يقولون وهم يُرمون فى النار: الآن صح عندنا أنه الله، لأنه لا يُعَذِب بالنار إلا الله... وفى ذلك يقول رضى الله عنه:
*لما رأيتُ الأمر أمراً منكراً * أجَّجت ناراً ودعوتُ قنبراً*
يريد قنبر مولاه، وهو الذى تولى طرحهم فى النار... نعوذ بالله من أن نفتتن بمخلوق أو يفتتن بنا مخلوق فيما جَلَّ أو دَقَّ، فإن محنة أبى الحسن رضى الله عنه من بين أصحابه رضى الله عنهم كمحنة عيسى ﷺ بين أصحابه من الرسل عليهم السلام.
وهذه الفرقة باقية إلى اليوم فاشية عظيمة العدد، يسمون العليائية، منهم كان إسحاق بن محمد النخعى الأحمر الكوفى وكان من متكلميهم، وله فى ذلك كتاب سماه "الصراط" نقض عليه البهنكى والفيَّاض بن علىّ، وله فى هذا المعنى كتاب سماه "القسطاس"، وأبوه الكاتب المشهور الذى كتب لإسحاق بن كنداج أيام ولايته، ثم لأمير المؤمنين المعتضد، وفيه يقول البحترى القصيدة المشهورة التى أولها:
*شط من ساكن الغدير فراره * وطوته البلاد والله حاره*
والفياض هذا - لعنه الله - قتله القاسم بن عبد الله بن سليمان بن وهب، لكونه من جملة مَن سعى به أيام المعتضد، والقصة مشهورة.
وفرقة قالت بإلهية آدم عليه السلام والنبيين بعده نبياً نبياً إلى محمد عليه السلام، ثم بإلَهية علىّ، ثم بإلَهية الحسن ثم الحسين ثم محمد بن علىّ ثم جعفر ابن محمد ووقفوا ههنا، وأعلنت الخطابية بذلك نهاراً بالكوفة فى ولاية عيسى ابن موسى بن محمد بن علىّ بن عبد الله بن العباس، فخرجوا صدر النهار فى جموع عظيمة فى أزر وأردية محرمين ينادون بأعلى أصواتهم: لبيك جعفر.. لبيك جعفر. قال ابن عياش وغيره: كأنى أنظر إليهم يومئذ. فخرج إليهم عيسى بن موسى فقاتلوه فقتلهم واصطلمهم.
ثم زادت فرقة على ما ذكرنا فقالت بإلَهية محمد بن إسماعيل بن جعفر ابن محمد وهم القرامطة، وفيهم مَن قال بإلَهية أبى سعيد الحسن بن بهرام الجبائى وأبنائه بعده، ومنهم مَن قال بإلَهية أبى القاسم النجار القائم باليمن فى بلاد همدان المسمى بالمنصور.
وقالت طائفة منهم بإلَهية عبيد الله ثم الولاة من ولده إلى يومنا هذا، وقالت طائفة بإلَهية أبى الخطاب محمد بن أبى زينب مولى بنى أسد بالكوفة، وكثر عددهم بها حتى تجاوزوا الألوف، وقالوا: هو إلَه، وجعفر بن محمد إلَه، إلا أنَّ أبا الخطاب أكبر منه.
وكانوا يقولون: جميع أولاد الحسن أبناء الله وأحباؤه، وكانوا يقولون: إنهم لا يموتون ولكنهم يُرفعون إلى السماء، وأشبه على الناس بهذا الشيخ الذى ترون.
ثم قالت طائفة منه بإلَهية معمر بائع الحنطة بالكوفة وعبدوه، وكان من أصحاب أبى الخطاب، لعنهم الله أجمعين.
وقالت طائفة بإلَهية الحسن بن منصور حلاج القطن المصلوب ببغداد بسعى الوزير ابن حامد بن العباس رحمه الله أيام المقتدر.
وقالت طائفة بإلَهية محمد بن علىّ بن السمعانى الكاتب المقتول ببغداد أيام الراضى، وكان أمر أصحابه أن يفسق الأرفع قدراً منهم به ليولج فيه النور، وكل هذه الفرق ترى الاشتراك فى النساء.
وقالت طائفة منهم بإلَهية شباس المقيم فى وقتنا هذا حياً بالبصرة، وقالت طائفة منهم بإلَهية أبى مسلم السراج، ثم قالت طائفة من هؤلاء بإلَهية المقنع الأعور القصّار القائم بثأر أبى مسلم، واسم هذا القصّار هاشم، وقُتِل لعنه الله أيام المنصور، وأعلنوا بذلك فخرج المنصور فقتلهم وأفناهم إلى لعنة الله.
وقالت الرنودية بإلَهية أبى جعفر المنصور، وقالت طائفة منهم بإلَهية عبد الله بن الخرب الكندى الكوفى وعبدوه، وكان يقول بتناسخ الأرواح، وفرض عليهم تسعة عشرة صلاة فى اليوم والليلة، فى كل صلاة خمسة عشر ركعة، إلى أن ناظره رجل من متكلمى الصفرية، وأوضح له براهين الدين فأسلم وصح إسلامه وتبرأ من كل ما كان عليه، وأعلم أصحابه بذلك وأظهر التوبة فتبرأ منه جميع أصحابه الذين كانوا يعبدونه ويقولون بإلَهيته ولعنوه وفارقوه، ورجعوا كلهم إلى القول بإمامة عبد الله بن معاوية بن عبد الله أبن جعفر بن أبى طالب.
وبقى عبد الله بن الخرب على الإسلام وعلى مذهب الصفرية إلى أن مات، وطائفته اليوم تُعرف بالخربية وهى من السبأية القائلين بإلَهية علىّ، وطائفة تدعى النصرية غلبوا فى وقتنا هذا على جند الأردن بالشام وعلى مدينة طبرية خاصة.


الصفحة التالية
Icon